الفقر والبطالة .. والاستثمار في رأس المال البشري
برزت بشكل واضح في الاقتصاد السعودي في الآونة الأخيرة مشكلتان خطيرتان هما الفقر والبطالة. وعلى الرغم من اختلاف المسببات لهاتين المشكلتين وطرق العلاج، إلا أنه يوجد ترابط بينهما ويغذي كل منهما الآخر. والفقر قد يكون سببه عجز لأسباب صحية أو اجتماعية، وقد يكون سبب الفقر عدم توافر فرص العمل على الرغم من قدرة الشخص المعني للعمل. وستركز هذه المقالة على الشق الثاني من الفقراء القادرين على العمل، لكن لا يجد أو أن دخله من العمل لا يكفي للاحتياجات الأساسية للحياة الكريمة، فالفقير في غالب الأحيان فقير لأنه عاطل عن العمل) الفقير القادر على العمل)؛ وهو عاطل عن العمل لأنه فقير، حيث إن فقره إدى إلى انخفاض صوته في المطالبة بالتوظيف (الواسطة)؛ فجل الوظائف المتاحة يأخذها القوي بواسطته دون الفقير، وإن كان الفقير أكفأ (بعض الجهات تهدر مبالغ طائلة للمفاضلة بين آلاف المتقدمين، بينما النتيجة معروفة سلفا على الأقل لبعض هؤلاء) .. والفقير عاطل عن العمل لأنه يعاني انخفاض التحصيل التعليمي الذي يمكنه من المنافسة في الحصول على الوظيفة التي تحقق له الحد الأدنى من الدخل والحياة الكريمة في حالة الوظائف التي يمكن أن ينافس فيها! ولهذا أضاف البنك الدولي في تعريفه للفقر ''... عدم قدرة الفرد على إسماع صوته وانعدام حيلته''. إن من أسباب ظهور هذه المشكلات تدني الاستثمار في رأس المال البشري، سواء التدني النوعي أو الكمي (هناك أسباب كثيرة لن نتطرق إليها في هذه المقالة)؛ أي إن ما يصرف على التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي والتدريب والتعليم الجامعي وكذلك ما يصرف على الصحة يعاني انخفاض الكفاءة الاقتصادية، الذي يؤدي إلى تضخم المبالغ المصروفة وانخفاض الفوائد المتحققة، فعلى الرغم من أن ما يصرف نسبة إلى الدخل القومي الإجمالي في السعودية يضاهي الدول الصناعية إلا أن النوعية متدنية مقارنة بالدول الصناعية. وهنا تبرز أهمية قياس الكفاءة الاقتصادية للتعليم والصحة وجميع الخدمات التي تقدمها الأجهزة الحكومية.
الاستثمار في رأس المال البشري يشكل أهم مصادر النمو الاقتصادي، حيث ربطت الدراسات الاقتصادية تحقيق نمو اقتصادي مستمر بالاستثمار في رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب التقليدي والتدريب عن بُعد، والاهتمام بالنوعية. فنظريات النمو الاقتصادي الحديثة ركزت على أهمية الاستثمار في التعليم للنمو الاقتصادي ودعت إلى الاستثمار فيه بجميع مراحله لتحقيق عائد مرتفع للاقتصاد المحلي ونمو اقتصادي مستمر. وقد أثبتت الدراسات التطبيقية التي حاولت أن تختبر مدى توافق هذه النظريات مع الواقع الفعلي باستخدام بيانات لعينة من دول العالم، أن هناك علاقة إيجابية بين تحقيق معدلات نمو مرتفعة والاستثمار في التعليم. وفي محاولة لتحديد نسبة مساهمة التعليم في الدخل المحلي الإجمالي للفرد لعينة من عدة دول نامية ومتقدمة، وجد أن التعليم يسهم بنحو 75 في المائة من مصادر الدخل، أعلى من مساهمة رأس المال العيني (الآلات والمكائن...) التي لم تتجاوز 38 في المائة.
وباستعراض الدراسات التطبيقية التي تحدثت عن تجربة دول جنوب شرق آسيا، التي استطاعت أن تحقق معدلات نمو اقتصادي عالية، لم تستطع الدول النامية في جنوب أمريكا أو الشرق الأوسط والقارة الإفريقية تحقيقها، التي بدورها خفضت نسبة الفقر والبطالة في هذه الدول، نجد أن بعض هذه الدراسات تعزي النجاح الذي تحقق في هذه الدول إلى الاستثمار في رأس المال البشري. حيث اهتمت دول جنوب شرق آسيا منذ البداية بتنمية رأس المال البشري، واحتل مركز الصدارة بين الأهداف التنموية الأخرى، وقد تفوقت على الدول النامية الأخرى في تنمية رأس المال البشري. وأدت سياسات التعليم، التي ركزت اهتمامها على المدارس الابتدائية والثانوية، إلى زيادة سريعة في مهارات القوى العاملة. ومن أهم ملامح هذه التنمية تركيز التمويل العام المحدود لمرحلة التعليم فوق الثانوي على المهارات الفنية، ولم تغفل هذه الدول مبدأ الاستفادة من التجارب المتميزة للآخرين، حيث استوردت بعض الاقتصادات الآسيوية ذات الأداء المرتفع خدمات تعليمية على نطاق واسع، خاصة في المجالات المتطورة مهنيا وتقنياً. وكانت محصلة هذه السياسات قاعدة رأس مال بشري عريضة موجهة فنيا تتناسب تناسبا جيدا مع التنمية الاقتصادية السريعة. كما ساهمت سياسات التعليم في الاقتصادات الآسيوية في تحقيق المزيد من العدالة في توزيع الدخل. وبتبني هذه السياسات استطاعت هذه الدول رفع المستوى التعليمي في الدول الآسيوية وتطويره بشكل لافت للنظر، وأصبحت مستويات المهارات المعرفية لدى خريجي المدارس الثانوية في بعض هذه الاقتصادات توازي أو أعلى مما هي عليه لدى الخريجين في الاقتصادات المتقدمة صناعيا. إن من أهم أسباب هذا التحول الإنفاق السخي على التعليم والاهتمام بالنوعية. وبنظرة سريعة لعينة من هذه الدول نجد الآثار الإيجابية لهذا الاستثمار على الفقر؛ فمثلا في سنة 1972 نسبة من هم تحت خط الفقر في إندونيسيا 58 في المائة من السكان انخفضت في سنة 1982 إلى 17 في المائة من السكان؛ وفي تايلاند كانت نسبة من هم تحت خط الفقر 59 في المائة في سنة 1962 انخفضت إلى 26 في المائة في سنة 1986، وفي كازخستان من تحت خط الفقر 38 في المائة من السكان عام 1997 انخفض إلى 12 في المائة بحلول 2008. وعند مقارنة مؤشر التنمية، الذي تنشره الأمم المتحدة ويأخذ في اعتباره التعليم والصحة، للمملكة مع بعض دول شرق آسيا، التي لا توجد لديها موارد طبيعية مثل التي حبا الله ـ عز وجل ـ بها هذه البلاد، نجد أن المملكة من الدول المتوسطة في التنمية البشرية، بينما دولة مثل كوريا تصنف من الدول المتقدمة في التنمية البشرية، علماً بأنه في الستينيات الميلادية مؤشر التنمية البشرية للمملكة متقارب مع نظيره في كوريا، حسب تقرير التنمية البشرية الصادر من الأمم المتحدة.
إن تجربة دول جنوب شرق آسيا وكذلك الدراسات النظرية والتطبيقية في علم الاقتصاد، تبرز أهمية الاستثمار في رأس المال البشري (الكمي والنوعي) وتعتبرها من الشروط الضرورية التي يجب توافرها لعلاج مشكلتي الفقر والبطالة. فإضافة إلى الآثار المباشرة للاستثمار في رأس المال البشري على الفقر والبطالة إذا روعي فيها عدالة التوزيع، فإنها من أهم العوامل المحددة للنمو الاقتصادي، الذي يعني زيادة التوظيف وارتفاع مستوى الدخل الفردي.
هذا لا يعني حصر أسباب الفقر والبطالة وطرق علاجهما في الاستثمار في رأس المال البشري، بل توجد أسباب أخرى ساهمت في بروزهما، كما أن هناك طرقا أخرى للعلاج تعتبر مكملة وضرورية يجب الأخذ بها ودراستها. وإنما تم التركيز هنا على الاستثمار البشري لأهميته والأولوية التي يحظى بها كأهم عوامل التنمية الاقتصادية والأساس في العلاج.