بروز الآخر وحتمية التحول
في ثلاثة مقالات متتالية, قدم الزميل الدكتور مقبل الذكير صورة عن التحولات الكبيرة في الاقتصاد العالمي تجاه الشرق. وقد عنون الدكتور مقبل مقالاته بعنوان جميل ''إلى الشرق در'' اقتباساً من العبارة التي يستخدمها الضابط, آمراً جنوده بتغيير اتجاه حركتهم. وكأني بالدكتور مقبل يريد أن ينبه الجميع, صانعي القرار وقادة الفكر وأفراد المجتمع, إلى أن هناك ما يجب الالتفات إليه في الشرق. هناك قوى تصعد وتتنافس لاحتلال الصدارة في التعليم, والإنتاج, والاستثمار, والديمقراطية. هناك مارد وتنين آسيوي قادم, وليس فقط مجموعة من النمور الآسيوية الصغيرة, هناك بروز لقوى اقتصادية آسيوية على قمة الصدارة, فثاني وثالث اقتصادين في العالم هما من آسيا (الصين واليابان).
هناك دلائل لا تشكك أبداً في بروز قوى, ليست من الشرق فقط, لكن من جهات أخرى من العالم كأمريكا اللاتينية, ما يؤكد دورا متزايدا لقوى الاقتصادات الناشئة في الاقتصاد العالمي, في مقابل تراجع دور ومساهمة الدول المتقدمة. خذ على سبيل المثال الناتج المحلي الإجمالي العالمي, حيث كانت الدول المتقدمة تسهم بثلثي قيمته قبل عشرة أعوام فقط, اليوم, تسهم هذه الدول بما نسبته 50 في المائة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي, وينتظر أن تتراجع هذه النسبة إلى 40 في المائة خلال الأعوام العشرة المقبلة. خلال القرن الماضي حتى الستينيات ميلادية, لم تنم أي دولة نامية على الإطلاق بسرعة تفوق سرعة نمو الولايات المتحدة, وخلال الفترة بين (1960و2000) كان فقط ثلث الدول النامية تنمو بمعدل أسرع من الولايات المتحدة, أما خلال الفترة بين (2002 و2008) فقد نما ما نسبته 85 في المائة من الدول النامية بمعدل أسرع من الولايات المتحدة (مجلة ''الإيكونوميست'' 9 ـ 15 أكتوبر).
مؤشرات أخرى تدل على تحول في القوى الاقتصادية من الدول المتقدمة, أو الغرب إلى الشرق, أو الاقتصادات الناشئة بشكل عام. على سبيل المثال, معدل نمو الناتج المحلي في الدول المتقدمة بلغ 2.1 في المائة خلال الفترة من (1998 إلى 2008), في حين أنه مرجح للتراجع إلى معدل 1.45 في المائة خلال السنوات العشر المقبلة. في المقابل تحقق دول الاقتصادات الناشئة معدلات تبلغ 7 في المائة في المتوسط سنوياً, ما يعطي فكرة عن التقارب في المستويات الاقتصادية بين الدول المتقدمة والناشئة. كبرى المؤسسات المالية والصناعية ومعدلات نمو أسواق رأس المال, تعطي فكرة عن مستوى التقارب والتحول في القوى الاقتصادية بين الغرب والشرق, حيث إن 37 شركة من الشركات الواردة في قائمة مجلة ''الفورتشن'' لأكبر 500 شركة في العالم, هي شركات صينية, في حين كانت هناك ثماني شركات صينية في هذه القائمة عام 2000. أكبر ثلاثة بنوك في العالم بالقيمة السوقية هي, بنك الصين الصناعي والتجاري, وبنك الصين للإعمار, وبنك إتش إس بي سي (الذي نقل مقره الرئيسي إلى هونج كونج عام 2009) كلها بنوك صينية. علاوة على ذلك, في عام 2009 بلغت قيمة الشركات التي تم طرحها في السوق الصينية 34.8 مليار دولار, مقارنة بما قيمته 13.7 مليار دولار في الولايات المتحدة.
هذه الظاهرة أطلق عليها الإعلامي الأمريكي المخضرم فريد زكريا: بروز الآخر The Rise of Rest, في إشارة إلى الدول الأخرى غير الغربية, حيث يشير فريد إلى أن هناك قلقاً متزايداً من الأمريكيين من حيث قدرتهم على محاكاة النمو والتقدم في الآلة الإنتاجية الشرقية, وبالتالي خوفهم من تراجع تأثيرهم ودورهم في الاقتصاد العالمي. في استفتاء عام 2008, يعتقد ما نسبته 81 في المائة من الأمريكيين أنهم في الطريق الخطأ, والكثير من الأمريكيين متشائمون بشأن المستقبل. انظر إلى المؤشرات الديموغرافية, وقارن العادات الاجتماعية, والسياسات الاقتصادية, بين الشرق والغرب, وستأخذ فكرة واضحة عن مسار معدلات الإنتاجية في المستقبل, خصوصاً في الدول الغربية. دليل أوضح من ذلك, المظاهرات التي تعم أوروبا حالياً, خصوصاً فرنسا, بسبب تعديل سن التقاعد, الناس هناك ببساطة ليس لديهم الاستعداد للعمل أكثر, في حين أن الصينيين يكدون ليل نهار, ويأتون من قلب الأرياف, لأطراف شانغهاي وبكين, ليسهموا في تعزيز الطاقة الإنتاجية, وماذا كانت النتيجة؟ انخفاض معدل الفقر في الصين (العيش على 1.25 دولار في اليوم) من 60 في المائة عام 1990 إلى 16 في المائة فقط عام 2005, والرقم مرشح للنزول بشكل أكبر آخذاً النمو الكبير الذي حققته الصين خلال السنوات الخمس الأخيرة.
هناك حقيقة لا ينكرها الغرب أنفسهم, وهي أن هناك تحولا في القوى الاقتصادية في العالم, وهذا لا يعني أن التأثير السياسي والاقتصادي الغربي في العالم سيتراجع بسرعة, لكن بروز القوى الأخرى سيحد من هذا التأثير. الصين تستثمر في إفريقيا أكثر من أي دولة أخرى في العالم, وهذا سيعزز دورها السياسي العالمي مستقبلاً. ستستمر الولايات المتحدة في لعب دور كبير في تحريك النشاط الاقتصادي العالمي, وتزويد العالم بمزيد من الإبداعات, ولا تزال أكثر الدول إنفاقاً على البحث والتطوير, لكن نمط هذا النشاط يتراجع عاماً بعد آخر, وبالتالي فإن تأثيره سيتراجع حتماً عاماً بعد عام. وسواء آمنا بحقيقة بأن القوى الاقتصادية تتحول من الغرب إلى الشرق أم لا, يظل السؤال الذي يجب أن نبحث له عن إجابة, أين نحن من هذا التحول؟ هل سيتجاوزنا هذا التحول كما تجاوزتنا التحولات السابقة, أم سنتمكن من الاستفادة منه, وأن نجيره لمصلحة أجيالنا القادمة؟