إن الله لا يحب المفسدين ..!
تُقاس ظاهرة الفساد في المجتمعات كافة بمبادئ الشفافية التي تسعى أعمال المؤسسات الرسمية والأهلية على السواء لترسيخها.. والأهم من ذلك فإن مكافحة الفساد تعتمد على توافر الإرادة المجتمعية والوطنية في التغيير ورغبتها في إرساء قيم، وفعاليات التطوير والتحديث.
وأثناء قراءتي، منذ أيام، لتقرير دولي صدر قبل أيام عن منظمة الشفافية الدولية، وهو تقرير يتحدث عن أوضاع الفساد في مختلف دول العالم، ومن بينها المملكة بالطبع، ويطبق مقاييس الفساد في كل منها على حدة بوساطة رجال الأعمال،, والأكاديميين وبعض مراكز البحوث والبنك الدولي.. وإن كانت مثل هذه المعايير قد تتأثر ببراعة البيروقراطية في إخفاء الفساد، وفرض تعتيم يصعب على الأفراد العاديين اختراقه! والعجيب والملاحظ في هذا الخصوص، أن معظم الصحف في المملكة والعالم العربي، لم تأبه لهذا التقرير؛ فقد كشف عن أن منطقة الشرق الأوسط من أدني دول العالم في درجة الشفافية وبالتالي من أكثرها فسادًا، رغم المظاهر الدينية الصارخة التي يحرص الكثيرون بل الأغلبية على تغليف ممارساتهم بها صباح مساء، وكأن الواقع شيء والدين شيء آخر، في ظاهرة، تعبّر بصدق عن الانفصال التام بين الدين والدنيا، أو بين الدين والمعاملة، التي اختصر رسولنا الكريم الدين بقوله، صلى الله عليه وسلّم: الدين المعاملة، ما يشير إلى التدين المغشوش!
المهم، فكّرت في استعراض هذا التقرير، طرأ علي ذهني تساؤل مهم عن مسألة أولية مسبقة رأيت حسمها:هل يجوز استعراض عيوبنا على الملأ، وكشف عوراتنا أمام الآخر؟! أليس من الحكمة التدثُّر بالحديث الشريف: إذا بُليتم فاستتروا؟! في مثل هذه الظروف التي يشهد فيها الوطن طفرات وطفرات متنوعة على الأصعدة كافة، ما يثير علينا حنق الشامتين، فهل نحن في حاجة إلى مَنْ يفتَّ من عزمنا ويقلل ثقتنا بأنفسنا، في وقت نحن في أشد الحاجة إلى قليل من الأمل في المستقبل؟!
ولكني أجبت بتساؤل عكسي أيضًا: ألم تصبح الشفافية، والنزاهة، مؤشرين مهمين، يقيسان النزاهة والطهارة في كل مناحي الحياة، والذي أصبح قرين التقدم والازدهار في الأمم، حيث تضعان حدًا للتجاوزات المسيئة، وتفشي الفساد في المجتمع في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، تحكّم في اتّخاذ القرارات وفي منح الرخص، وفي المشتروات والمناقصات وإدارة الخدمات العامة العادية؛ وإنشاء الشركات الوهمية وتقديم الرشاوى، والعمولات.. وغياب الشفافية بسبب عدم توافر المعلومات أو بسبب ضآلتها، يتيح البيئة المناسبة للفساد والمفسدين..!
وهكذا وجدت نفسي مترددًا في التعليق على هذا التقرير عن أوضاع الفساد في المملكة، خشية الوقوع في المحظور بالترويج لدعاوى المتربصين بنا. ورأيت أنه قد يكون من الأفضل أن أتمهّل الأمر،, والنظر في مدى سلامة مبدأ مناقشة عيوبنا. وهل هو أمر جائز أم أن المفروض هو أن نبحث أولاً عما يريده المتربصون بها، ونختار عكس ما يريدون؟!
وأخيرًا، حزمت أمري، وقلت: إننا نخدع أنفسنا عندما نعتقد أننا نعطي الآخر، المتربص بنا ـ أدوات مهمة للتنكيل بنا أو حتى الشماتة فينا عند الإعلان عن عيوبنا وأخطائنا؛ لأن هذه العيوب، وتلك الأخطاء، مكشوفة، ومعروفة، ومتاحة للجميع! وعندما نحجم عن نشرها، والإعلان عنها؛ فإننا لا نحرم ذلك الآخر المتربص، من معرفتها، وإنما نحرم ذواتنا.. أجيالنا .. أبناءنا، الذين قد لا تتوافر لديهم مصادر المعرفة. وهكذا تصبح حجة احترام أنفسنا أمام هذا الآخر ضربًا من الكبرياء الخادع والكاذب الذي لا يرفع قيمةً أمامه، بقدر ما يغرِّر فقط بأبنائنا، عندما نخفي حقيقة سوء الأوضاع؛ حيث يعرف الجميع عيوبنا،, ونظل نحن في غفلة وسرور زائف ومخادع!
وبعد هذه المقدمة، فقد رأيت لا بأس من الحديث عن الفساد، والكشف عن بعض عيوبنا، خاصة أن تقرير مؤسسة الشفافية الدولية عن أوضاع الفساد في العالم ليس سرًا من الأسرار، بل منشور على شبكة المعلومات العالمية (إنترنت)؛ وبالتالي، هو متاح للقاصي والداني!
نخلص مما تقدم إلي أن الانطباع العالمي عن أوضاع الفساد في المملكة والعالم العربي ليس مما يسعد القلب. هذا في وقت نتحدث فيه عن ضرورة تشجيع الاستثمار المحلي وجذب الاستثمارات الأجنبية،, وتحسين صورة المملكة خارجيًا؛ ولذلك فإن محاربة الفساد وتغيير الانطباع السائد عن صورة الفساد هو أحد أهم الواجبات.
ولا جدال أن نجاحنا في الكشف عن مكامن الفساد وممارساته، سيوجه أكبر ضربة لظاهرة الفساد الإداري والاقتصادي، ويحقق طموحات قيادتنا الرشيدة في تحقيق الطهارة ونظافة اليد.
تصدّر التقرير الدولي للشفافية قطر، كأقل دولة عربية من حيث حجم الفساد بدرجة شفافية 7.7، تليها الإمارات بـ 6.3 وعمان بـ 5.3 والبحرين بـ 4.9، بينما احتلت المملكة المركز الخامس متساوية مع الأردن بدرجة الشفافية 4.7 نفسها..!
وقد تحسّن موقع المملكة 13 مركزًا بين الدولة المكافحة للفساد، محققة تقدماً ملحوظاً في تقرير منظمة الشفافية الدولية السنوي لعام 2010 عن الفساد في دول العالم، حيث تقدمت إلى المركز الـ 50 كأقل الدول فسادًا في التقرير الذي يضم 178 دولة، بعد أن كانت في المركز الـ 63 بين دول العالم في تقرير عام 2009.
موقع المملكة في التقرير، لا يعبّر بصدق عن مكانتها في هذا الشأن، على الرغم من حرص ولاة الأمر، حفظهم الله، على السعي الحثيث نحو إرساء قيم النزاهة ومحاربة الفساد، وليس أدل على ذلك إصدار مجلس الوزراء للاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، عام 1428هـ. وهي استراتيجية مهمة، تنم عن تلمس من القيادة لواقع اجتماعي خطير جدًا تنوء به المملكة لتحجيمه، والتخفيف من حدّته، ومنع انتشاره، وأعتقد أن هذه الاستراتيجية خطوة مباركة ولا بد من تفعليها بشكل ممتاز.
ولعل من الفساد الذي ينخر في بيئة رجال الأعمال، وكلنا يعرفه عن ظهر قلب، ما يحدث في سوق تأشيرات العمل، وكأن المملكة باتت سوقا لتوظيف العالم! وكلنا قرأ أو سمع هجوم الأستاذ صالح كامل، رئيس مجلس الغرف السعودية على ما أسماه مافيا التأشيرات، في حضرة وزير العمل المهندس عادل فقيه، عندما أستأذن الوزير الدخول إلى عش الأفاعي والثعابين، والعقارب، قائلاً: ''أنا أتقدم للحصول على تأشيرة أو تأشيرات وأظل انتظرها أشهرا من دون جدوى، ثم يأتيني من يعرض علي دفع 5 أو 8 أو 10 آلاف ريال، ولا يمضي أسبوع إلا والتأشيرات جاهزة على مكتبي''. ثم أضاف: ''الوضع محزن فيما يتعلق باستخراج تأشيرات العمل وما آل إليه في زمن الراشين والمرتشين وغيرهم من الملعونين''!
من مظاهر الفساد الإداري كذلك، ما تسهم به بعض الشركات، والمؤسّسات عبر مندوبي المبيعات، الذين يقننون لهذا الفساد برشوة مندوبي المشتروات، بفاتورة لا يدفعها بالطبع إلا مؤسسته أو شركته من واقع الفواتير المضروبة!!
من مظاهر الفساد، إغفال صاحب المؤسّسة (عامة/ أهلية) عن تضخم ثروات مسؤولي تنفيذ المشروعات في المؤسسات العامة، والخاصة، وعدم تنبّه مرؤوسيهم إلى ذلك، بترك المسؤوليات الإدارية، المالية من شراء وبيع واستبدال وخزن وخلافه في حوزة بعض أهل الثقة، الذين لكروشهم قدرة غريبة، وعجيبة على ابتلاع أية مخصصات مالية ؟ من مظاهر الفساد، ما نقوى على الحديث عنه في مجالسنا العامة، وعدم الاستطاعة من الحديث عنه على الملأ!