الاستثمار في رأس المال البشري أولا (1 من 2)

شهد الاقتصاد العالمي في السنوات العشر الأخيرة تغيّرات سريعة ومتلاحقة انعكست آثارها على بيئة الأعمال، والتي تمثلت في زيادة حدة التنافسية العالمية والتكتلات الاقتصادية وزوال القيود والحواجز التجارية والمكانية والزمانية بفعل منظمة التجارة العالمية وثورة الاتصالات والمعلومات وبحكم تشابك وتداخل المصالح الاقتصادية بين الدول، وهو الأمر الذي دعا كثيرا من دول العالم بل والشركات إلى إجراء تعديلات هيكلية في أساليب استخدام وتوظيف مواردها لمواجهة هذه التحديات، بل استغلال مواردها بالشكل الأفضل لتحقيق العائد الاقتصادي والاجتماعي على الوجه المطلوب لكل مجتمع.
الكثير منا يعتقد أن الاستثمار ينحصر في رأس المال الطبيعي (الآلات والمعدات)، وتنمية المال، من خلال العمل في أصول وتجارة وبيع وشراء وإنشاء مصانع ومشاريع زراعية، وما إلى ذلك، لتمكين الفرد والمجتمع من زيادة إنتاجه ودخله. ومع تقدم الأمم في العصور الحديثة وانحسار الجهل وزيادة التعليم بين أفراد المجتمعات المعاصرة، دخل عنصر التعليم كمتغير مهم ومؤثر في زيادة الناتج المحلي.
هنا وجد الاقتصاديون أمثال آدم سميث وريكاردو ومالتوس أن توجيه جزء من رأس المال للاستثمار في التعليم (وباعتبار أن التعليم استثمار وليس استهلاكا كما كان يعتقد سابقاً)، يسهم بنسبة كبيرة في زيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة دخل الفرد، بل أكد بعضهم أنه لا يقل أهمية عن الاستثمار في رأس المال الطبيعي، ولنا أسوة حسنة في بعض المجتمعات المعاصرة والدول مثل (سنغافورة واليابان والفلبين وغيرها)، التي ركزت على الاستثمار الحقيقي في بناء وتطوير قدرات ومهارات ومواهب الإنسان على نحو يمكّنه من زيادة إنتاجيته، ما جعل نظرية الاستثمار في رأس المال البشري Investment in Human Capital Theory لآدم سميت A.Smith وألفريد مارشال A.Marshall وغيرهما، تبرز للوجود وتؤكد مصداقيتها، حيث تقوم هذه النظرية على أساس أن هناك علاقة طردية بين الاستثمار في التعليم (الاستثمار في رأس المال البشري)، وبين زيادة دخل الفرد والمجتمع، مع ثبوت حقيقة هذه النظريات في ربط عوائد التعليم بالجانب الاقتصادي، وأن فكرة العائد من التعليم هي فكرة اقتصادية مفادها أن هناك مكاسب مادية يكسبها الفرد والمجتمع من جراء زيادة التعليم، أي أنه كلما زاد الاستثمار في رأس المال البشري بالتعليم والتأهيل كلما زاد الدخل، سواء على مستوى المجتمع أو مستوى الفرد.
وقد يقول قائل إن هذا فكر مادي بحت وَجد له معارضين، فنقول إن من الأساسيات في ديننا الحنيف، الذي هو دين شامل وكامل، العلم والثناء عليه، كما في تعليم الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ لأبينا آدم عليه السلام (وعلم آدم الأسماء) ونحن أمة اقرأ، والمفارقة والتفضيل في الفهم والإدراك لشؤون الحياتين الدنيا والآخرة واضحة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهو مقياس إسلامي ذكر في الإسلام قبل هذه النظريات الحديثة، وليس سراً القول إن العوائد من هذا الاستثمار تنحصر فقط في النواحي الاقتصادية، مثل تكوين السلوكيات الاقتصادية السليمة الخاصة بالترشيد وعدم الإسراف وعادات الادخار والاستهلاك والمحافظة على الممتلكات العامة والخاصة وطرق استخدامها وعدم الإسراف في استعمالاتها، بل تتعداها إلى النواحي الاجتماعية، والتي منها الارتقاء المعرفي لأبناء المجتمع وتنظيم الحياة بين أفراده وتكوين العادات السليمة في التعامل بين أفراد المجتمع ومع أنظمته والقضاء على الجهل والأمية وتصحيح الاعتقادات الخاطئة، مثل الشعوذة والتوكل على غير الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وترسيخ قيم التعامل مع الآخر وثقافة الحوار والاحترام بين أفرد المجتمع، وبالتالي خفض معدلات الجريمة وحفظ أمن المجتمع والقضاء على الأفكار الضالة التي تهدم أمن المجتمع واستقراره وجعله مجتمعاً منتجاً ومساهماً بفاعلية في الحضارة الإنسانية.
واليوم تمر بلادنا بطفرة أخرى، فنرى المشاريع الجبارة يعلو غبارها في كل أصقاع البلاد وقد تسابقت الشركات العالمية من كل أنحاء العالم للحصول على نصيبها من الكعكة، فهل فعلاً أعددنا العدة قبلاً للاستثمار الحقيقي في أهم عنصر للموارد وهو الإنسان، ذلك العنصر الذي استخلفه المولى في عمارة الأرض وصناعة المعجزات البشرية وتمكينه من إدارة دفة هذه المشاريع وصيانتها وتوجيهها الوجهة الأمينة والسليمة نحو تحقيق أهداف القيادة العليا وأبناء البلد الذي أنشئت من أجله هذه المشاريع؟ إنه حقاً تساؤل وشأن وطني يجب على الجميع التفكير والإجابة عنه.
ولعلنا في تكملة المقال فيما بعد نعرّج على تناول هذا الأمر في الخطط الخمسية الخمس الأخيرة مع مراجعة ما تم وما لم يتم تحقيقه في بناء قدرات الموارد البشرية السعودية لاحتلال مكانتها اللائقة على خريطة التنافسية العالمية، وعلى الله قصد السبيل.
عضو لجنة المقاولين ـــ الغرفة التجارية الصناعية في الرياض

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي