صدق المتورقون ولو صدفوا
> لا تزال مشروعية التورق تشغل بال كثير من المهتمين بالعمل المالي الإسلامي. وعلى الرغم من أن الأمر حسم في عدم المشروعية من قبل مجمعين فقهيين عالميين، إلا أن بعض خبراء الشريعة في المؤسسات المالية الإسلامية لا يزالون يصرون على مشروعية التورق الذي صدر فيه معيار شرعي يضبطه من قبل المجلس الشرعي التابع لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية ـــ البحرين. وما بين الفرقتين، يقف المسلم البسيط حائراً أمام “رحمة خلاف العلماء” دون أن يجد جواباً شافياً لمسألة تدخل في شؤون حياته اليومية إن كان مودعاً أمواله لدى بنك “إسلامي” يمارس التورق على أقل تقدير، أو إن كان هو شخصياً يمارس التورق على أكبر تقدير.
وحتى نأخذ هذا الجدل غير المنتهي إلى حيز ربما ينتهي فيه لمصلحة إحدى الفرقتين، دعونا نفترض أن التورق الممارس من قبل المؤسسات المالية الإسلامية جائز شرعاً ـــ مع التسليم بأن نيات من يجيزونه خالصة لله ـــ نحسبهم كذلك والله حسيبهم. وهنا يتعين علينا أن ننظر بعمق إلى الآثار التي ترتبت على عمليات التورق ونرصد بعض النتائج الواقعية المتأتية عن هذه الصيغة:
غلو المؤسسات في استخدام التورق : لا يستطيع أحد أن يتجاهل الحجم المهول لعمليات التورق التي تجريها المؤسسات المالية الإسلامية؛ بحيث أصبحت تشكل السمة الأساسية للصناعة رغم أن هناك كثيرا من صيغ التمويل والاستثمار الإسلامي البديلة.
التورق يقتل الإبداع : الاستخدام المفرط للتورق أدى بالمؤسسات المالية الإسلامية إلى الركون وترك الإبداع في إيجاد منتجات مالية إسلامية أصيلة ومبتكرة لأن التورق أوفى بمتطلبات وأحجام عملياتها.
التورق يشجع على السلوك الاستهلاكي والترفي: لفت انتباهي ذلك الإعلان لأحد البنوك الإسلامية المخضرمة الذي يروج فيه لتمويل السياحة في أوروبا عن طريق التورق، تماماً كما يلفت انتباهي بعض البطاقات المصرفية «الإسلامية» التي تستند أساساً إلى التورق ـــ على سبيل المثال لا الحصر ـــ هذا إضافة إلى تمويل صغار المستثمرين (الغلابا) لشراء الأسهم والمضاربة الجاهلة في البورصات لينتهي «تورقهم» في جيوب «الهوامير» .
التورق ذو أثر سلبي على الاقتصاد ومقصد “حفظ المال” : من أهم مزايا التمويل الإسلامي أنه يرتبط بالنشاط الاقتصادي الحقيقي من خلال تبادل النقد بعوض (سلعة ـــ منفعة ـــ جهد) وهنا يكون حجم الدين المترتب على التمويل مواكبا للنمو الاقتصادي الحقيقي، ما يجعل المقصد الشرعي الكلي في حفظ المال في مأمن من تقلبات الاقتصاد كما حصل في الاقتصاد الوضعي وتمويله في الأزمة العالمية. لكن المتورقين (أخذاً وعطاء) سقطوا في براثن تداعيات الأزمة ليجدوا أن ما عليهم من ديون لا يوازي النشاط الاقتصادي الحقيقي في وقت الركود؛ فنما حجم الديون المتعثرة في البنوك الإسلامية الخليجية بنسب مهولة وضاعت الأموال هباءً منثورا.
التورق مجانب للعدل في توزيع المخاطر : تقوم الشريعة الإسلامية الغراء على أساس العدل والمساواة بما يتناسب مع الفطرة الإنسانية. إلا أن بعضاً من عمليات التورق السائدة في الأسواق حالياً فيها شيء من البعد عن تلك الفطرة من حيث مبدأ «الغنم بالغرم». فأين الغرم (المخاطر) الذي يتحمله الطرف الثالث عندما يشتري السلعة من المتورق، خصوصاً إن كان هذا الطرف هو الطرف البائع للسلعة ابتداءً للمؤسسة المالية الإسلامية المانحة للتورق؟ وهل يساوي غنم المؤسسة المانحة للتورق مقدار غنمها من عملية التورق؟
التورق مرتفع التكلفة على العميل : بالتأكيد أن أي عملية تدخل فيها أطراف متعددة بيعاً وشراءً تكون ذات تكلفة أعلى على المستفيد النهائي لتلك العملية. وما يتضمنه التورق من عمليات بيع وشراء متعددة سيرفع من تكلفة التمويل على الحاصل عليه.
التورق قد يوقع في المخاطر الشرعية : من المعلوم أن تسلسل عملية التورق وتعدد عقودها يعرض تطبيقها للوقوع في بعض المحظورات الشرعية، ولا سيما أن كثيرا ممن يعملون في البنوك الإسلامية غير مؤهلين من النواحي الشرعية من حيث معرفة أولويات تسلسل العمليات وأثر الزلل فيها على إخراج المعاملة من حيز الحلال الذي ينشده جميع أطراف عملية التورق.
التورق يفتح الباب لأدوات مالية منحرفة : يعتبر التورق من أكثر المنتجات تسهيلا للحصول على السيولة التي هي في الأصل صعبة المنال إلا بعوض في إطار صيغ التمويل الإسلامي الأخرى. وإن تصعيب منال السيولة فيه حكمة توازي ربط أحجام الديون بأحجام نمو الاقتصاد الحقيقي. وعلى اعتبار أن التورق مباح شرعاً، فقد تم تطوير عديد من صيغ الحصول على النقود بناء على الفكرة الأساسية للتورق، فأصبح يمارس في عمليات الودائع وأصبح يمارس أيضاً في عقود مهجنة تجمع بين الوكالة والمضاربة وبالتالي أصبح القاعدة الأساسية للسمات المميزة للصناعة المالية الإسلامية وسحبها لتقترب بشكل كبير من خصائص ومميزات الصناعة المالية التقليدية، مع العلم أن الفرق كبير بين مبادئ وأهداف الصناعتين.
دعونا الآن نعود إلى افتراضنا بأن التورق الممارس في أوقاتنا هذه مجاز شرعاً. فهل يعقل أن نعتبر كل مجاز شرعاً يكون مطلقاً من حيث كمية وتوقيت التعامل به؟ وهنا علني أضرب أمثلة توضح ما أرمي إليه: فالسكر الأبيض مباح شرعاً لكن الإفراط في أكله يؤدي إلى مرض السكري، والملح مباح شرعاً والإفراط في أكله يؤدي إلى ضغط الدم، الخبز الأبيض والأرز كذلك مباحان، لكن من يدخل في حمية غذائية يدرك خطر الإفراط في تناولهما. فهل يدرك مجيزو التورق أنهم صادفوا الحقيقة على افتراض أنه مباح لكنهم جانبوا الواقع على اعتبار أن الإفراط فيه مضر بالجميع؟
إننا في أمس الحاجة إلى فقه شبيه بفقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أوقف حد قطع يد السارق في وقت المجاعة، وعندما منع إعطاء الزكاة إلى المؤلفة قلوبهم على الرغم من أن كلا الأمرين فيهما حكم شرعي واضح. ومن هنا فإننا نتمنى على الذين ينافحون عن مشروعية التورق أن يقفوا وقفة تأمل مع الأضرار التي يتسبب فيها هذا المنتج على المصلحة العامة علهم يخرجون لنا بفقه كفقه عمر رضي الله عنه.