التعاملات الإلكترونية الحكومية .. مكمن الخلل

تطرقت في المقال السابق بشكل مختصر إلى أين وصلت التعاملات الإلكترونية الحكومية على ضوء ما شاهدته وتعاملت معه ليس على ضوء التقارير الرسمية من ''يسر''. وفي اعتقادي هذا كاف في ظل غياب الشفافية في هذا الموضوع، ولأني عملت من قرب ومازلت أعمل في بناء وإدارة بعض من هذه الخدمات لإحدى أهم الجهات التي حصدت الجوائز ضمن أفضل ثلاث جهات حكومية في مقياس يسر، كما قدمت عددا من الاستشارات لجهات أخرى وشاهدت شيئا من معاناتهم، وطبعاً التواصل مع كثير من الشركات الرائدة في مجال خدمات الحكومة الإلكترونية والمسؤولين في بعض قطاعات تقنية المعلومات الحكومية يوفر لك الكثير من المعلومات وتتلمس منه عدم الرضى عن النتائج التي تحققت حتى الآن. طبعاً كلنا يدرك أن هناك عشرات من الخدمات الإلكترونية الحكومية التي تم تدشينها خلال الفترة الماضية منها المتميز ومنها الوسط ومنها دون ذلك، و لكن عتبنا هنا يتعلق بما ورد في الخطة الاستراتيجية الوطنية، والخطة التنفيذية الأولى لها والتي تقرر تنفيذها خلال الفترة الزمنية من 2006 إلى 2010م. ولم تتحقق معظم أهدافها، ومعظم ما تحقق منها إنما هو بجهود فردية من الجهات الحكومية، ولم تكن ''ليسر'' فيه يد، وهنا دعني أعرض المآخذ على ما تم من الخطة وآلية تطبيقها:
ـ لم تُنجز معظم الخدمات الــ 150 المقررة ضمن الهدف الأول من أهداف الخطة الاستراتيجية.
ـ التكامل في كثير من الخدمات خصوصاً فيما بين الجهات الحكومية في أسوأ صوره ما عدا عددا من خدمات ''مركز المعلومات الوطني'' والجهات المرتبطة به.
ـ معظم معايير سهولة الاستخدام Usability غير متوافرة ولم تُؤخذ في الحسبان، ولم أجد في أي جهة تواصلت معها أي متخصص في هذا الحقل أو إخصائي Human-omputer interaction specialist HCI.
ـ درجة الأمان ضعيفة في كثير من الخدمات المقدمة، وما يُحزن هو عدم وجود أقسام أو إدارات متخصصة في أمن المعلومات في معظم الجهات الحكومية، وإن وجد في بعضها فكثير ممن يعملون فيه غير متخصصين أو مؤهلين بشكل جيد في هذا الجانب، خصوصاً ما يتعلق بأمان التطبيقات Application Security. ومن جهة أخرى، فعلى مستوى تكامل أمن المعلومات في الجهات الحكومية لا يوجد مركز وطني لعمليات أمن المعلومات Security Operations Center SOC (وسيتم طرح ذلك في مقال مستقل مستقبلاً إن شاء الله)، وإنما يوجد على مستوى بعض الجهات بشكل منفرد وبسيط.
ـ أما ما يتعلق برضاء المستخدمين فلن يتحقق كما يُطمح له حتى يتم تفعيل الخدمات الإلكترونية الحيوية التي تمس المواطن بشكل كامل ويتخلص من الاصطفاف في طوابير الاستقدام وتجديد الإقامات أو إصدار أوامر الخروج النهائي للخدم أو لإصدار السجلات ورخص البلدية أو تجديد الجواز أو رخصة القيادة وملكية السيارة وغيرها الكثير مما طُرح معظمه كأماني في الخطة الاستراتيجية.
''يسر'' تمتلك عددا من الكوادر المميزة أحترمهم و أقدرهم ويعجبني عموماً طرحهم الإعلامي وتنظيمهم لورش العمل والمؤتمرات منذ أول مؤتمر وأول ورشة عمل قاموا بها، ولكن المشكلة هي وضع البرنامج نفسه محل الواعظ من بعيد الذي لا يملك حولاً ولا قوة في التغيير إذ بنى استراتيجيته على ''اللامركزية'' في الحكومة الإلكترونية ففقد القدرة على التنسيق والتكامل وقدرته على تطبيق أهم مفاهيم الحكومة الإلكترونية الحديثة، وهي بناء الخدمات على أساس ''بنية الخدمات المتكيفة ـ الموجهة ـ المتكاملة'' إن صحت الترجمة Services-Oriented Architecture أو ما يرمز له اختصاراً SOA وهو مبدأ رائع بات يستخدم في كل أنواع إدارة المشاريع، كما أن برنامج ''يسر'' ومعه هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات يُفترض بهما أن يكونا مثلاً أعلى في تطبيق مفاهيم الحكومة الإلكترونية، وهذا ما لم يحدث فالتعامل والتخاطب بينهما وبين الجمهور أو الجهات الحكومية عبر ''الفاكس'' كان ولا يزال هو سيد الموقف، ولذا وكما جاء في تعليق الدكتور خالد العنقري على المقال السابق ''فاقد الشيء لا يعطيه''.
كثيراً ما كانت تُرّدد ''يسر'' أهمية انضمام القيادات العليا للجهات الحكومية ضمن ''لجانها'' لأنهم يملكون سلطة التغيير وهذا جيد وتم، ولكنها أغفلت أو أهملت الاهتمام بالقيادات التنفيذية المباشرة فتعثرت كثير من المشاريع من الناحيتين التخطيطية والفنية. من جهة أخرى، كان البرنامج يؤكد في معظم ورش العمل أهمية إعادة هندسة الإجراءات قبل عملية تطوير الخدمات حتى تتناسب مع صورتها الإلكترونية وهذا جميل ورائع، ولكنه لم يتم في أغلب الخدمات، ومنها الخدمات التي عملت مع زملائي على تطويرها وحصدت جوائز يسر والتي تم تطويرها على ''سيناريو'' العمل الورقي نفسه ما عدا بعض التغييرات الطفيفة دون إعادة هندسة إجراءات. وهذا وإن كان خطأ فهو بسبب رفض كثير من الإدارات أو عدم اهتمامها بمبدأ إعادة هندسة الإجراءات أو إدارة العمليات Business Process Management BPM. لذا فمن الطبيعي بعد تغيير أي مدير إدارة أن يعيد طلب تطوير الخدمة أو النظام بسيناريو آخر مختلف حسب رأيه الشخصي، وهنا كان من جوانب الخلل في البرنامج. عموماً عدم وجود خطة عملية ''للتغيير الإداري'' Change Management Plan ولا خطة إدارة مخاطر Risk Management Plan، وإن وجدت فهي لم تطبق وهذا هو الأهم.
أختم بشكري لكل من تفاعل مع المقال السابق وعلى تعليقاتهم الجيدة حتى تاريخ إرسال هذا المقال وهم ''فراس الراضي'' و''سليمان البراهيم'' و''عمر العمر'' و''عبد الغني'' و''عبد الله محمد'' إذ يؤكدون على عدم نجاح المشروع في تحقيق أهدافه ودليل ذلك طوابير المراجعين في كثير من الدوائر الحكومية لساعات، ناهيك عن معاناتهم قبل الوصول من زحمة المواصلات، وكذلك تدل عليها المعلومات القديمة والصفحات التي لم تحدث منذ شهور في مواقع بعض الجهات الحكومية. وأشكر إبراهيم فلقي ونبيل مصطفى وأبا محمد وعدنان سعيد والدكتور خالد العنقري والدكتور عبد الرحمن باقيس على تعليقاتهم، وأضم صوتي أخيراً للدكتور عثمان إبراهيم السلوم الذي يؤكد على أهمية وجود قوانين وتشريعات موازية وملزمة للجهات الحكومية لإنجاح البرنامج وتسريع مشاريعه.
ودمتم بخير وسعادة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي