نزاهة القضاء .. لا بد من الشفافية

لا أحد يجادل في نزاهة المرفق العدلي في المملكة إجمالا، وهو وإن كان مجرد انطباع خال من المعضدات, إذ لا توجد حقائق أو وثائق منشورة تجعلنا نتكئ على مثل هذه المقولة, لكن لنا من الأمور ظاهرها، والظاهر أن الجهاز القضائي لدينا من حيث النزاهة يحمل درجة مرتفعة. أقول مرتفعة ولا أقول كاملة, لأن الكمال يعني أن موظفي السلك القضائي انقلبوا إلى ملائكة, وهو الأمر الذي لن يستسيغه أبسط عقل. مع كل هذا يبقى كل هذا مجرد انطباع. ولتثبيت ذلك الانطباع الجميل في أذهان العامة والخاصة، لا بد من العلم بالشيء، أي لا بد من الشفافية، وإلا ستبقى الأمور كما هي، مجرد انطباعات تحكمها التجارب والشائعات الفوضوية، لكن مسألة الشفافية في موضوع القضاء عصية على التطبيق.
باختصار، مسألة الشفافية في القضاء تعتورها فكرتان متعارضتان, الأولى تقول مضار الشفافية أكبر بكثير من منافعها، فالشفافية ستخرج هفوات القضاء إلى الهواء وسيعرفها الناس, ما سيؤثر في هيبة القضاء في المجتمع. فنشر خبر عن تأديب قاض لعدم حضوره، أو سجن قاض أو تغريمه لارتكابه مخالفة تستوجب ذلك، أو نشر حكم غير معقول، أو نشر شيء قد لا يتقبله أو لا يفهمه المجتمع بسهولة، ستؤدي لا محالة إلى اهتزاز في نظرة المجتمع إلى هذا المرفق المهم جدا, وهي نتيجة لا تتعادل مع إخفاء تلك الأمور عن العامة وحبسها بين جدران أهل الدار، حفظاً لهيبة الجهاز القضائي من التأثر بتلك الأخبار. وبما أن الهفوة مرتكبة في معقل القضاء, فالجهاز لن يسمح بمرورها دون عقاب صارم, وهو النتيجة المرجوة، على كل حال، فلم التضجر من الاختفاء والفوائد المرجوة من التكتم تتعاظم أمام نشر الغسيل. ولهذا, فالشفافية ليست علاجا ناجعا في مرفق القضاء. باختصار هذه الفكرة الأولى الممانعة للشفافية.
أما الفكرة الثانية فهي مع الشفافية قلبا وقالبا. جوهر هذه الفكرة يقوم على أن القضاء مرفق عام في مجتمع إنساني وليس ملائكيا، غرضه الرئيس تقديم خدمة عامة للمصلحة العامة. وتقديم خدمة عامة للمجتمع الإنساني يتأثر ببشرية القائمين على إدارة المرفق العام الذين يتعرضون لعوامل متعددة من واسطة أو هوى أو محبة أو كره أو تأثير معنوي أو مادي، وهي أمور لا تحدث علنا وأمام الناس, بل لأنها مخالفة ومستفزة وتستثير الاعتراض والشكوى, فهي تحدث خلف الأستار. وصعوبة العمل في المرفق القضائي أنه يتداخل لتنظيم وإدارة مصالح متعارضة ويفك خناق حقوق متداخلة عامة وخاصة, وبالتالي فهناك حافز مستمر للمتعاملين في نطاقه لأجل إمالة الكفة لتحقيق مصالحهم بكل الوسائل المشروعة وغيرها. ولتضييق الخناق على تلك الاختلالات، لا يكفي فقط سن العقوبات وتطبيقها، فتلك معالجة لمرض تم اكتشافه، بل لا بد من زرع حاجز وقائي يستبق وجود المرض ويذيع وجوده ويرسل إشارات تبنئ عن احتمالات تغلغله. هذا الشق الوقائي هو الشفافية في كل أعمال المرفق العام حتى يعرف الجميع، الموظف العام ومتلقي الخدمة العامة, أن كل شيء يقومون به سيكون مكشوفا للجميع، فيضيق الخناق على ناشري الأوبئة لانعدام ــ أو صعوبة ــ فرصة الإفساد التي لا تنمو إلا في الظلام، فالراشي لا يقدم رشوته أمام الناس, وبائع وموثق ومصدر صك ملكية مشكوك في أمره لا يذيعه في الصحف. وعليه، فنشر كل الأحكام القضائية، مثلا، سيجعل القضية تحت الأنظار للجميع, وهو ما يعرفه القاضي سلفا, ما يعني أنه سيبذل قصارى جهده ليكون حكما عادلا أو متلبسا بلبوس العدالة. نشر الحكم أيضا سيجعل المتخاصمين في هيبة ووجل من السعي لإمالة كفة الحق لأن الموضوع ليس مغلقا فقط في داخل الجهاز, بل هو عرضة للفحص والاستئناف من المجتمع بشكل لاحق، وليس في دائرة ضيقة قد لا تستطيع قراءة الأحرف الصغيرة. ونشر عقوبة قاض استغل منصبه ــ مثلا ــ علاوة على أنه يعاقب المخالف، يشيع جواً خالياً من الأوبئة بين القضاة المتهيئين للانحراف فيمنع النفس الأمارة بالسوء من التحكم والسيطرة، وسيعلن للمجتمع أنه لا يوجد أحد فوق المحاسبة، ما يوطد دعائم إشاعة جو العدالة بشكل ملموس وواقعي وليس مجرد انطباعات.
سألني مستثمر من تركيا عن عدالة القضاء السعودي فلم أتوان عن الثناء عليه، فأعقب بسؤال آخر عن سلطة القضاء على النافذين، فأخبرته بقضايا أعرفها شخصيا عن نافذين جدا خسروها في محاكم المملكة, وعن نزاهة قضاة لم ترف جفونهم هلعا من هيبة الخصوم ولم تسترقهم لذة الوعود. فنظر إلي غير مصدق، وعقب قائلا، أود أن أصدقك. تمنيت لحظتها أن لدي نافذة ــ حتى إن كانت ضيقة ــ على سجلات القضاة لأستند إليها. وانفض حديثنا، بانطباع قابله انطباع .. وكلام عارضه كلام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي