مشروع نظام الجودة وسلامة المريض في الخدمات الصحية

تكتمل الجودة في الخدمات الصحية بتكاملها في جميع مكونات وعناصر الخدمة ـــ الإنشائية والفريق الصحي وأدوات التشخيص والعلاج والتأهيل والوقاية ـــ إلى جانب المتطلبات العقدية والمهنية والأخلاقية، حيث يتجسد تجويد الخدمة في مساعدة المريض على استرداد ما فقد من صحته والحفاظ على سلامته خلال تقديم الخدمة الصحية. وهذه المكونات والعناصر والمتطلبات من أهم واجبات الطب والطبابة منذ القدم. فقد نظم حمورابي عام 1750 قبل الميلاد ممارسة المهنة وحفظ حقوق الطبيب والمريض على السواء، ثم أتى أبقراط عام 400 قبل الميلاد ليحول الطب إلى ''علم''، وتتالت المباحث والدراسات في مختلف المجتمعات، وفي التوجه ذاته أخضع الخليفة المقتدر عام 319هـ الطب والتطبيب لمعايير، حيث أمر ''بإجراء اختبار لمن يرغب في ممارسة مهنة الطب''، وفي العصور الإسلامية التالية، أُلفّت الكتب والمراجع في مهنة الطب والطبابة وتراجم الأطباء، ومنها كتاب ابن أبي أُصيبعة ''عيون الأنباء في طبقات الأطباء''، ولابن حيان ''طبقات الأطباء'' ـــ وهي غنية بالدلالات على حرص الخلفاء والأمراء والوزراء والأطباء على إيصال خدمة التطبيب لكل فرد في الأمة والالتزام بمتطلباتها المهنية والأخلاقية، كما أن للرازي كتبا في ''سر الطب''، ولابن قدامة ''كتاب المغني''، الذي حدد فيه حدود وضمان الطبيب، ولابن النفيس كتب عدة، منها ''الشامل في الصناعة الطبية'' و''شرح الهداية في الطب''، ولأبي القاسم الزهراوي كتاب ''التصريف لمن عجز عن التأليف''، ولابن القيم صفات للطبيب الحاذق. وقد عرض الحموي في كتابه ''نور العيون وجامع الفنون'' قبل سبعة قرون أخلاقيات المهنة، موصيا تلاميذه: ''.. يلبس ثوب الطهارة والعفة والنقاء والرأفة ومراقبة الله تعالى..''، وأشار ابن هُبل في كتابه ''صفات الأطباء'' إلى عدد من الجوانب الأخلاقية، حيث ذكر :''.. وكذلك يأخذون عليهم العهود في حفظ الأسرار..، وأن يلزموا العفة وغض الطرف، وإذا دخلوا بيوت الناس لا تكون همومهم مصروفة إلا إلى ما يعود بمصالح المريض..''. وأشار الشطي في كتابه ''تاريخ الطب وعلومه'' إلى أن أطباء العرب جعلوا من علم آداب الطب شأنا مهما، وكان من أهم مباحثه آنذاك السر الطبي، والمسؤولية الطبية، والتشاور الطبي. وأوجد التقدم العلمي في العصر الحديث في مختلف جوانب الطب والطبابة الحاجة إلى تجويد الخدمات الصحية وتقنين إجراءاتها وإعداد فريق صحي متكامل متخصص في جوانب صحية متعددة ذات صلة بمتطلبات الخدمات الصحية الشاملة، كالتمريض والتحليل المخبري والشعاعي وغيرها يلتزم بما يلتزم به الطبيب من المتطلبات المهنية، إلى جانب إيجاد بنى تحتية وتجهيزات تشخيصية وعلاجية وتأهيلية وقواعد وإجراءات مهنية وسلم مسؤوليات مقنن لأفراد الفريق الصحي، ومدونات وأدلة إرشادية تنظم إجراءات الخدمات الصحية وحدودها المهنية، والتزام الطبيب بعدم الأذى والعمل على توفير الفائدة للمريض. وكلا الأمرين من مبادئ الأخلاقيات الطبية المتمثلة في عناصر ستة متعارف عليها في المجال الطبي، هي العمل على جلب الفائدة للمريض والإحسان إليه والرأفة به، عدم الإيذاء، احترام الاستقلالية، العدالة، المحافظة على السر، والمسؤولية الطبية. وهي كذلك من مقتضيات مقاصد الشريعة الإسلامية، وفي صميم أخلاقيات الطب والطبابة في ضوء الكتاب والسنة. وفي ضوء تقييمها للخدمات الصحية، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرا (مايو 2006م) سجلا أكد على الحاجة إلى تحسين سلامة المرضى، وأن ذلك: ''يستلزم تصميم نظم الرعاية الصحية تصميما جيدا؛ من أجل الحد من المخاطر التي يتعرض لها المرضى..''. وكذلك الحاجة إلى تغيير سلوك الأفراد والجماعات والمنظمات في مجال إيتاء الرعاية الصحية إلى الأفضل..''.
وفي ضوء ما تمثله الخدمات الصحية من أهمية للفرد والأسرة والمجتمع، وما تفرزه الأحداث السلبية في الممارسة الطبية من مشكلات شرعية وقانونية واجتماعية ونفسية واقتصادية؛ كونها تتعلق بمسببات متعددة ـــ إنشائية أو تجهيزية أو أمنية أو مسلكية أو تنظيمية ـــ في الحقل الصحي الذي أصبح على درجة عالية من التشعب والتعقيد؛ لذا، أصبح لزاما إيجاد إطار تشريعي متكامل لمختلف أوجه وعناصر الخدمات الصحية لتراعي صحة وسلامة المريض ـــ الهدف الأساس ـــ في الخدمات الصحية، ووضع نظام يضع المريض محور الخدمة ضمن ضوابط أخلاقية في المسائل الحساسة ـــ كالطب والطبابة ـــ وهي التي تتعلق بالحياة والموت، كما أن المعايير والضوابط الخدمية والتأكيد من تطبيقها من خلال التقييم الميداني للمؤسسات الصحية واعتمادها ضرورة لمنع الشطط والحفاظ على صحة وسلامة وكرامة الإنسان؛ ولذلك صدرت قوانين وأنظمة عدة خاصة بجودة الخدمة الصحية وسلامة المرضى في الدنمارك والولايات المتحدة، وهي قيد النظر في بريطانيا وأستراليا ودول أخرى، كما صدرت قوانين وإجراءات في عدد من الدول الأخرى، كما قامت الجهات المختصة في بلدان الخليج العربية ومنظمة الصحة العالمية والمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول الخليج العربية بجهود ترمي لتجويد أوجه الخدمات الصحية.
وفي المملكة العربية السعودية عنيت الجهات المختصة بسلامة المرضى والتقليل من الأحداث السلبية، ومن الجهود المبذولة في هذا المجال إنشاء هيئات وإصدار أنظمة ولوائح ذات علاقة بالإطار العام لجودة الخدمة وسلامة المرضى، منها:
ـــ إنشاء الهيئة السعودية للتخصصات الصحية الصادر بموجب المرسوم الملكي رقم م/2 وتاريخ 6/2/ 1413هـ المبني على قرار مجلس الوزراء رقم 16 وتاريخ 5/2/1413هـ.
ـــ إنشاء اللجنة الوطنية للأخلاقيات الحيوية والطبية بالأمر السامي الكريم رقم 7/ب/ 9512 وتأريخ 18/5/1422 هـ.
ـــ إصدار نظام المنشآت والمستحضرات الصيدلانية الصادر بقرار مجلس الوزراء رقم 78 وتاريخ 7/3/1425هـ.
ـــ إنشاء المجلس المركزي لاعتماد المنشآت الصحية بقرار وزير الصحة رقم 144187/11 وتاريخ 1/9/1426هـ.
ـــ نظام مزاولة المهن الصحية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/59) وتاريخ 4/11/1426هـ.
ـــ صدور ضوابط إجراء الجراحات غير المسبوقة بالمرسوم الملكي رقم م/59 وتاريخ 4/11/1426هـ المبني على قرار مجلس الوزراء رقم 276 وتاريخ 3/11/1426هـ.
ـــ إنشاء الهيئة العامة للغذاء والدواء بقرار مجلس الوزراء رقم (1) وتاريخ 7/1/1424هـ، وقد صدر نظام الهيئة بالمرسوم الملكي رقم م/6 وتاريخ 25/1/1428هـ المبني على قرار مجلس الوزراء رقم 31 وتاريخ 24/1/1428هـ.
ـــ ''استراتيجية الرعاية الصحية في المملكة، الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 320 وتاريخ 17/9/1430هـ.
ـــ نظام أخلاقيات البحث على المخلوقات الحية ـــ الصادر بقرار مجلس الوزراء رقم برقم 321 وتأريخ 13/9/1431هـ .
ـــ قرار مجلس الشورى رقم 93/63 وتاريخ 8/1/1430هـ، والذي ينص على (إنشاء هيئة مختصة مستقلة للجودة في الخدمة الصحية، تختص بوضع المعايير المطلوبة للخدمات الصحية وتوصيلها للمرضى بالصورة الملائمة في أنماط الخدمات العلاجية والوقائية ووسائلها والتحقق من الالتزام بها في المنشآت الصحية ـــ كما ونوعا ـــ ولها أن تستعين في سبيل ذلك ببيوت الخبرة العالمية).
وأخذا في الاعتبار أن نظام مزاولة المهن الصحية ومسؤوليات الهيئة السعودية للتخصصات الصحية لم تشمل معايير لجودة الخدمات الصحية ولا اعتماد المؤسسات الصحية، فإن الحاجة تدعو إلى إيجاد نظام يشتمل على معايير وطنية تقوم عليها هيئة مستقلة تقيّم وتعتمد وتتابع وتشرف على تجويد الخدمة وسلامة المريض في المملكة، مستقلة عن جهات التعليم والتدريب والتأهيل، كما هو الحال في الدول المتقدمة؛ وذلك لتعزيز مصداقية وحيادية الاعتماد للمؤسسات الصحية في جميع القطاعات الحكومية والقطاع الخاص من خلال الهيئة المقترحة.
وتستند الرؤية التشريعية في مشروع النظام المقترح على الحاجة إلى إيجاد نظام يعنى بالجودة وسلامة المرضى يشتمل على هيئة اعتماد للمؤسسات الصحية في المملكة العربية السعودية، تقوم بالنظر في جوانب توافر وجودة عناصر الخدمات الصحية ـــ ملاءمة المنشأة لغرض الخدمة الصحية، الوصول الشامل للمؤسسة الصحية، كفاية وكفاءة القوى البشرية، التجهيزات التشخيصية والعلاجية والتأهيلية، والمدونات الطبية ونوعية الإجراءات التنظيمية والأداء الخدمي ـــ من خلال نظام مؤسسي ومواد تنظيمية ولائحة تنفيذية تهدف إلى تعميق مفاهيم الجودة وسلامة المرضى واعتبارها أسسا للاعتماد، وتأخذ في الاعتبار المفهوم التكاملي لتعزيز الجودة لرعاية المريض وسلامته، والتأكد من ملاءمة المنشأة الصحية والإجراءات الإدارية والمهنية التنظيمية لمقتضيات الخدمات الصحية، الوقائية والعلاجية والتأهيلية والخدمات المجتمعية حسب مسؤوليات وواجبات المؤسسة الصحية، وتفعيل التوجهات الحديثة في برنامج الاتحاد العالمي لسلامة المرضى. كما يهدف النظام إلى إبراز حقوق المرضى في الرعاية الصحية، وحقوق الفريق الصحي والتوعية بهما، والتركيز على أن يكون المريض محور الجهود الصحية وإصحاح الفرد والمجتمع. وتأتي الهيئة متناسقة في توجهها مع الأسس التي بُنيت عليها هيئات مماثلة في مجالات ذات صلة كالهيئة السعودية للغذاء والدواء وهيئة حماية المستهلك، وتتناغم مع قرار مجلس الشورى رقم 63/93 وتاريخ 8/1/1430هـ بإنشائها. وتتماشى مع ما تقوم به الجهات المعنية والمقدمة للخدمات الصحية الحكومية والخاصة حاليا بالسعي لاعتماد مؤسساتها الصحية للحصول على شهادات اعتماد من الداخل والخارج. وليس أدل على الحاجة إلى هذه الهيئة من ما ورد على لسان وزير الصحة بتاريخ 2/9/1429هـ حول أهمية وجود هيئة مستقلة للاعتماد، وكذلك ما ورد على لسان الوزير في الصحف مواكبا لانعقاد الحوار الوطني حول الجوانب الصحية في مدينة نجران هذا العام (1431هـ)، وكذلك ما نشر بمناسبة اليوم الوطني الثمانين للمملكة نهار يوم الأحد بتاريخ 17/10/1431هـ، من أن الوزارة قامت بتأهيل ثلاثين مستشفى لغرض الحصول على الاعتماد، حيث حصل واحدٌ وعشرون مستشفى منها على الاعتماد من المركز الوطني لاعتماد المنشآت الصحية، وكذلك الإعداد للاعتماد من قبل الهيئة الأمريكية المشتركة لتسعة مستشفيات. وفي منحى لتوفير الجهد والمال وتحسين الأداء تمكنت الوزارة من رفع دوران السرير من أربع دورات في الشهر إلى ست دورات (بمعدل أربعة آلاف دورة مضافة خلال ستة أشهر)؛ مما يقلل الإقامة غير الضرورية في المستشفى، والتي تكلف الرعاية الصحية في بريطانيا مثلا ملياري جنيه إسترليني سنويا. كما يأتي مقترح النظام لاستكمال حلقات الأنظمة الصادرة في مجال الخدمات الصحية المختلفة، وتلبية لحاجة ملحة إلى تقنين متطلبات الخدمة الصحية واعتماد مكوناتها الإنشائية والتسهيلات التشغيلية والعلاجية والتأهيلية وأداء هذه الخدمات.. وفي السياق نفسه يأتي مقترح نظام الجودة وسلامة المريض في الخدمات الصحية بناءً على الأسس التالية:
ـــ التباين بين المؤسسات الصحية في البُنى التحتية والتجهيزات والقوى البشرية، وتبعا لذلك تفاوتها في الجودة ـــ كما ونوعا.
ـــ عدم وجود نظام ومعايير قياسية لمكونات الخدمات الصحية مقننة ومعتمدة وتتابع من هيئة مستقلة في المملكة العربية السعودية والحاجة إليها.
كما يأتي مقترح النظام متمشيا مع:
ـــ تبني قادة الدول العربية في اجتماعات الجامعة العربية القرار رقم 395 د. ع. (19) بتاريخ 29/3/2007م، والقاضي بتطبيق المشروع العربي لتحسين جودة المؤسسات الصحية في البلدان العربية.
ـــ اعتماد مجلس وزراء الصحة العرب إنشاء الهيئة العربية العليا للطلب المبني على البراهين من قبل مجلس وزراء الصحة العرب (تحت التأسيس) في العام 2007م.
ـــ الحث على إيجاد نظام وطني للجودة وسلامة المريض من قبل منظمة الصحة العالمية، ومجلس وزراء الصحة لدول الخليج العربية، فضلا عن مؤسسات للمجتمع المدني كالاتحاد العالمي لسلامة المرضى والوكالة الوطنية لحماية المريض في الولايات المتحدة الأمريكية والجمعية السعودية للجودة وإدارة المخاطر في المؤسسات الصحية في المملكة.
ـــ مسارعة عدد من الدول في مجلس التعاون لدول الخليج العربية ودول عربية وأوروبية وأمريكية لإيجاد نظام ومؤسسات للاعتماد، وتبني مجلس وزراء الصحة في دول الخليج العربية إجراءات عدة في الاتجاه نفسه.
ـــ الحاجة إلى تقنين مكونات وعناصر رعاية وسلامة المريض وتكوين وتنظيم الأعمال الإدارية والفنية والمهنية في المنشأة الصحية وخدماتها الوقائية والعلاجية والتأهيلية للفرد والأسرة والمجتمع.
ويُعنى النظام بتحقيق الأهداف الأساسية التالية :
ـــ تحسين مستوى الجودة في الخدمات الصحية لرفع مستوى سلامة المريض والإقلال من الأحداث السلبية.
ـــ إعداد وإقرار نظام للاعتماد ومتابعة معايير الجودة في مكونات الخدمات الصحية ومراعاة سلامة المريض في المؤسسات الصحية.
ـــ تعزيز مفهوم سلامة المريض وإبراز حقوق المريض وحقوق الفريق الصحي في مختلف جوانب الخدمة الصحية.
ـــ تعظيم الهدف الأساس للخدمة الصحية المتمثل في رعاية المريض والمساعدة على شفائه، وسلامته في جسمه وعقله، وعدم المساس بكرامته.
ـــ مساعدة وزارة الصحة والجهات الأخرى التي تقدم خدمات صحية في سعيها لتعزيز مختلف جوانب الخدمات الصحية وتجويدها.
ـــ دعم الخدمة الطبية المبنية على البراهين وتطبيقاتها في الرعاية الصحية.
ـ دعم العمل الطبي المهني وأخلاقياته، والإفادة من المقتضيات الشرعية في هذا المجال.
والله أسأل أن يوفق الجميع لخدمة الفرد والأسرة والمجتمع في المملكة على الوجه الذي يرضيه سبحانه وتعالى، ويرقى لطموحات أولى الأمر في هذا البلد الكريم ـــ حفظهم الله ـــ في تحقيق الخدمات الصحية المتميزة للجميع..

* (الإطار العام لمقترح قدم لمجلس الشورى، وتمت قبول مقترحة للمناقشة والدراسة في المجلس يوم الإثنين 18/10/1431هـ)

عضو مجلس الشورى ـــ وعضو لجنة
الشؤون الصحية والبيئة في مجلس الشورى

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي