قراءة تحليلية مختزلة لتقرير مؤسسة النقد (46)

رصد التقرير السنوي السادس والأربعون الصادر عن مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما)، أبرز التغيرات، التي طرأت على أداء الاقتصاد الكلي السعودي، خلال العام المالي الماضي 2009، والربع الأول من العام الجاري، بما في ذلك التغيرات، التي طرأت على مفاصل الاقتصاد السعودي المختلفة ذات العلاقة، مثل النشاط المالي والقطاع المصرفي وإلى غير ذلك.
على مستوى الاقتصاد الكلي، بالرغم من الهزة المالية العنيفة، التي تعرض لها الاقتصاد العالمي في منتصف عام 2008، بسبب الأزمة المالية العالمية وأزمة الرهونات العقارية، التي نتج عنها تسجيل الإنتاج العالمي للسلع والخدمات انكماشا في العام الماضي، بنحو 0.6 في المائة، إضافة إلى تراجع كبير في حجم التجارة العالمية بنحو 10 في المائة، إلا أن إجمالي الناتج المحلي استمر في تسجيل معدلات نمو إيجابية خلال عام 2009، وإن كانت متواضعة بعض الشيء، والتي بلغت نحو 0.6 في المائة بالأسعار الثابتة للمملكة، مقارنة بنسبة نمو بلغت 4.2 في المائة في عام 2008، في حين قد حافظ القطاع غير النفطي على معدلات نمو جيدة لا بأس بها خلال عام 2009، بلغت نحو 3.8 في المائة مقارنة بنمو يبلغ نحو 4.3 في المائة.
من بين أبرز الأسباب التي ساعدت على استمرار الاقتصاد السعودي في تسجيل معدلات نمو إيجابية، انتهاج الحكومة السعودية لسياسة إنفاق توسعية، من خلال زيادة وتيرة الإنفاق على المشاريع التنموية المختلفة، بالذات التي لها علاقة ومساس مباشر بحياة المواطن والمقيم على حد سواء، مثل مشاريع البنية التحتية والفوقية، والتعليم، والصحة، وخلاف ذلك من المشاريع، التي تعمل على تحقيق مستوى الرفاه المعيشي والحضاري للمواطنين الذي تنشده الدولة، وعلى سبيل المثال بلغ حجم الإنفاق العام خلال العام الماضي نحو 596.4 مليار ريال، وهو يعد الأضخم في تاريخ المملكة، كما ساعد أيضاً رصد المملكة مبلغ 400 مليار دولار أمريكي للإنفاق على مشاريع التنمية خلال السنوات الخمس المقبلة ابتداءً من عام 2009، على استمرار وتيرة نمو الاقتصاد، ولا سيما أن تلك الجهود صاحبها زيادة كبيرة في حجم الإقراض، الذي تضخه مؤسسات الإقراض العامة في الدولة، مثل صندوق الاستثمارات العامة، والصندوق السعودي للتنمية وغيرها، الذي بلغ نحو 40 مليار ريال خلال عام 2009. من العوامل التي ساعدت على الاستقرار الاقتصادي في المملكة، إقرار الحكومة السعودية، أضخم خطة تنمية خمسية في تاريخها للفترة (2010 ـــ 2014)، التي رصد لها مبلغ 1444 مليار ريال، بتجاوز بلغت نسبته 67 في المائة عما تم رصده من إنفاق حكومي خلال خطة التنمية الثامنة.
النظام النقدي والقطاع المصرفي أسهما أيضاً بفاعلية قصوى في تعزيز النتائج الاقتصادية الجيدة التي تحققت خلال العام الماضي وحتى نهاية النصف الثاني من العام الجاري، نتيجة للسياسة النقدية المرنة والمتزنة، التي انتهجتها مؤسسة النقد العربي السعودي ''ساما''، التي تفاعلت بجدية ومرونة عالية مع احتياجات ومتطلبات الاقتصاد الوطني من السيولة، وعلى سبيل المثال زاد عرض النقود أو ما يعرف بحجم الكتلة النقدية، خلال عام 2009 بنسبة 10.7 في المائة، الأمر الذي مكن المصارف المحلية من التوسع في عملياتها وفي أنشطتها المصرفية المختلفة، وبالذات في مجال تمويل مشاريع القطاع الخاص، الذي وصل إلى مستويات مرتفعة جداً خلال النصف الأول من العام الجاري لم يسجلها من قبل، حيث بلغ إجمالي حجم التمويل المصرفي المقدم للقطاع المصرفي بنهاية تموز (يوليو) من العام الجاري 764.7 مليار ريال.
جدير بالذكر أن حزمة الإجراءات والتدابير الاحترازية والاستباقية، التي اتخذتها ''ساما'' أسهمت بفاعلية في توفير السيولة النقدية اللازمة للمحافظة على استقرار السيولة وتوافرها في النظام النقدي بالقدر الكافي لتلبية حاجات الاقتصاد، التي من بينها ـــ على سبيل المثال لا الحصر ـــ خفض نسبة الاحتياطي الإلزامي عدة مرات، وخفض معدل عائد اتفاقيات إعادة الشراء (الريبو)، ومعدل عائد اتفاقيات الشراء المعاكس (الريبو المعاكس) أيضاً عدة مرات، إضافة إلى تعزيز وضع السيولة في النظام المصرفي عن طريق إنشاء ودائع مع المصارف لمدد طويلة نسبياً نيابة عن الهيئات والمؤسسات الحكومية بالعملتين المحلية والدولار الأمريكي.
هذه التدابير الاحترازية وغيرها، دون أدنى شك، جنبت الاقتصاد السعودي وأنظمته المختلفة (المالية، والمصرفية، والنقدية)، من أن تكون عرضة للتأثر المباشر بتبعات وتداعيات الأزمة المالية العالمية، كما أنها حافظت في الوقت نفسه على استقرار أداء الاقتصاد، مما جعلها محل إشادة عدد كبير من المؤسسات والمنظمات الدولية على مستوى العالم، من بينها على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة البنك الدولي، وشركات التقييم المالي العالمية، التي منحت المملكة ونظامها المالي والمصرفي تقييمات مرتفعة للغاية من فئة (A).
رغم النتائج والمعدلات الإيجابية الجيدة جداً، التي حققها الاقتصاد السعودي خلال العام الماضي وحتى نهاية النصف الأول من العام الجاري، والتي يتوقع لها الاستمرار ـــ بإذن الله تعالى ـــ حتى نهاية العام، إذ يتوقع للاقتصاد السعودي، أن يسجل نمواً إيجابياً بنهاية هذا العام يتراوح ما بين 3.5 و3.9 في المائة، وبالذات في حالة محافظة أسعار النفط العالمية على مستويات سعرية معقولة، في حدود 70 دولارا في المتوسط، إلا أن الأمر لا يكاد يخلو من عدد من التحديات، التي يتطلب التعامل معها بحزم وجدية، التي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، مشكلة توظيف الشباب والشابات السعوديين والسعوديات، من خلال خلق فرص عمل جديدة، واتباع سياسة حازمة وصارمة فيما يتعلق بتوطين وإحلال الوظائف المشغولة في الوقت الحاضر بأجانب من غير السعوديين، شريطة أن يتم ذلك وفق أسلوب صحيح ومنهجية مدروسة لا تضر بمصالح الاقتصاد.
من بين التحديات أيضاً المطلوب التعامل معها، الرفع من مستوى كفاءة استخدام واستغلال الموارد الاقتصادية المختلفة، بما يحقق سرعة إنجاز المشاريع التنموية المختلفة بالدقة والسرعة المطلوبتين من جهة، وبالتكلفة المعقولة والمنطقية من جهة أخرى، ومن بين التحديات كذلك المطلوب التعامل معها، أهمية القضاء على الفجوة الإسكانية، أو على الأصح أزمة الإسكان التي تشهدها البلاد، وبالذات بالنسبة لمتوسطي ومحدودي الدخل من الأفراد والمواطنين، حيث إن عدم التعامل مع هذه المشكلة، سيعرض دخول الأفراد من تلك الفئة، إلى ضغط إنفاقي كبير، إضافة إلى أن ذلك سيسهم في رفع معدلات التضخم في البلاد، آخراً وليس أخيراً من بين أهم التحديات المطلوب التعامل معها بأسرع وقت ممكن، القضاء على حالات الفقر التي يعانيها عدد لا بأس به من المواطنين، من خلال تفعيل برامج واستراتيجية معالجة الفقر في المملكة، وآليات عمل الصندوق الخيري، والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي