التأمين ضد الأزمات يستحق ما يكلفنا من ثمن
اندلعت الأزمة المالية العالمية منذ عامين، إلا أننا بدأنا ندرك الآن فقط حجم التكاليف الباهظة المترتبة على هذه الأزمة. ووفقاً لتقديرات أندرو هالدين من بنك إنجلترا فإن القيمة الحالية للخسائر الموازية في الناتج في المستقبل قد تصل إلى 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وقد يبدو هذا التقدير مرتفعاً إلى حد مذهل، ولكنه في واقع الأمر متحفظ نسبياً، حيث يفترض أن ربعاً واحداً من الصدمة الأولية سيسفر عن انخفاض دائم في الناتج. وطبقاً لمزاعم المتشائمين، الذين يعتقدون أن معظم الصدمة، إن لم يكن كل الصدمة، سيخلف تأثيراً دائماً في الناتج، وأن الخسائر الإجمالية قد تكون ثلاثة أمثال ذلك الرقم.
إن عاماً واحداً من الناتج المحلي الإجمالي العالمي يبلغ نحو 60 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يعادل خمسة قرون من مساعدات التنمية الرسمية، أو 10 مليارات فصل دراسي في القرى الإفريقية. لا شك أن هذا لا يشكل التكلفة المباشرة للموازنات العامة (التكلفة الإجمالية لحزم إنقاذ البنوك أقل من ذلك كثيرا)، ولكن هذا الناتج المفقود هو الذي يشكل التكلفة الأكثر أهمية حين نضع في الحسبان كيفية الحد من تكرار حدوث الأزمات.
إذا افترضنا أن الأزمة التي قد تكلفنا في غياب التدابير الوقائية الكافية حصيلة عام كامل من الناتج المحلي الإجمالي تتكرر مرة واحدة كل 50 عاما (وهو افتراض فظ ولكنه ليس بالافتراض غير المعقول)، فمن المنطقي أن يتحمل مواطنو العالم علاوة تأمين، شريطة أن تظل تكاليفها أدنى من 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي (100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي كل 50 عاما).
وهناك طريقة بسيطة للحد من تكرار الأزمات، وهي تتلخص في إلزام البنوك بالاعتماد بشكل أكبر على الأصول الرأسمالية وبشكل أقل على الديون، حتى يصبح بوسعها تحمل مزيد من الخسائر من دون التعرض للإفلاس. وبفضل التقريرين الصادرين عن مجلس الاستقرار المالي ولجنة بازل أخيراً ـــ أحدهما يتناول التأثيرات البعيدة الأمد المترتبة على المطالبة بنسب أعلى من رأس المال إلى الأصول، والآخر يتحدث عن التأثيرات العارضة المترتبة على فرض هذا التوجه ـ أصبحنا نعرف الآن مزيدا عن التأثير المحتمل الذي قد يخلفه مثل هذا التنظيم.
ويرى التقرير الأول أنه بداية من المستوى المنخفض الحالي لمتطلبات رأس المال الخاصة بالبنوك، فإن الزيادة بمقدار نقطة مئوية واحدة في نسب رأس المال من شأنها أن تقلل بشكل دائم من احتمالات تكرر الأزمات بمقدار الثلث، في حين تزيد من أسعار الفائدة بنحو 13 نقطة أساسية (ستضطر البنوك إلى تقاضي مزيد لأن تكاليف زيادة رأس المال أكبر من تكاليف الاستدانة). وبعبارة أخرى فإن ثمن خسارة عام وواحد من الدخل كل 75 عاماً بدلاً من كل 50 عاماً من شأنه أن يدفع البنوك إلى زيادة سعر الفائدة على أي قرض من 4 في المائة إلى 4.13 في المائة. ومثل هذه الزيادة الضئيلة قد تدفع قِلة من عملاء البنوك ـــ على أسوأ تقدير ـــ إلى التحول نحو مصادر بديلة للتمويل، ومن دون تأثير يُذكَر على الناتج المحلي الإجمالي على الأرجح.
إنه لأمر مذهل أن نكتشف أن مثل هذا التنظيم البسيط قد يعود علينا بهذا القدر العظيم من الخير وبتكلفة بسيطة إلى هذا الحد ـــ فهي تكلفة أقل كثيراً من نظيراتها في عديد من المجالات الأخرى، حيث تفرض السياسة العامة شروط سلامة مكلفة اقتصاديا. ولنتأمل هنا، على سبيل المثال، مجال الصحة العامة، حيث يوجه مبدأ الحذر عملية اتخاذ القرار.
هذا عن الأمد البعيد، ولكن المسألة التي تشكل موضوعاً لمناقشة محتدمة في الوقت الحاضر هي ما إذا كان الانتقال إلى احتياطيات نقدية أعلى سيشتمل على تكاليف باهظة في الأمد القريب (حيث من المرجح أن تعمل البنوك على زيادة الفوارق في أسعار الفائدة على القروض وخفض حجم الائتمان). والواقع أن إخضاع البنوك، التي لا يزال بعضها متعثرا، لتنظيم جديد قد يدفعها إلى تقليص عمليات الإقراض، وبالتالي إضعاف وتيرة التعافي الاقتصادي. إن الأمر يتطلب الحكم السليم فيما يتصل بسرعة وتوقيت إحكام التدابير التنظيمية.
ويرى التقرير الثاني أن زيادة مقدارها نقطة مئوية واحدة في نسب رؤوس أموال البنوك، على أن يتم تقديم هذه الزيادة تدريجياً على مدى أربع سنوات، من شأنه أن يخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.2 في المائة. وفي ضوء الأحاديث المتكررة عن زيادة مقدارها ثلاث نقاط مئوية فهذا يعني أن التأثير الإجمالي قد يكون 0.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن هناك عديدا من الشكوك، فالتقرير يذكر على نحو لا يخلو من الغرابة أن رفع نسبة رأس المال المستهدفة سيكون له أثر سلبي في الولايات المتحدة أعظم كثيراً من نظيره في منطقة اليورو، وذلك على الرغم من اعتماد منطقة اليورو بشكل أوضح على التمويل المصرفي. ويفترض التقرير فضلاً عن ذلك أن السياسة النقدية قد تتمكن من تعويض جزء من الصدمة، وهو ما قد لا يكون صحيحاً حيثما أصبحت أسعار الفائدة الأقرب إلى الصفر هي السائدة ـــ أو في منطقة اليورو، حيث قد تختلف الجهود من بلد إلى آخر في حين تظل السياسة النقدية موحدة. وهذا يعني أن التأثير الذي قد تخلفه التنظيمات الجديدة على البلدان، حيث رؤوس أموال البنوك أقل مما ينبغي بشكل ملحوظ قد يكون ببساطة أضخم من الرقم الأساسي بما لا يقل عن أربعة إلى خمسة أمثال ـــ ولنقل في منطقة قريبة من نقطة مئوية واحدة على مدى أربعة أعوام.
وقد يبدو هذا ضئيلاً، ولكنه ليس بالمبلغ التافه في ضوء توقعات النمو في الأمد القريب في بلدان العالم النامي. وفي وقت حيث بات النمو أبطأ من أن يتسنى لنا الحد من مستويات البطالة الهائلة فإن أي نسبة ضئيلة تشكل أهمية بالغة.
والواقع أن انخفاض النمو إلى هذا الحد في وقت حيث لم يتمكن القطاع الخاص بعد من إتمام دورة سداد الديون ـــ وحيث بدأت الحكومات للتو دورتها ـــ يهدد بفترة مطولة من شبه الركود، وهو ما قد يحول البطالة الناجمة عن الأزمة إلى بطالة بنيوية. فضلاً عن ذلك فإن تبني معايير الائتمان الأكثر صرامة لفترة مطولة من المرجح أن يلحق ضرراً غير متناسب بالشركات التي تتسم بالنمو السريع والافتقار إلى السيولة، فضلاً عن التأثير السلبي في الإبداع والإنتاجية، وإمكانات النمو في نهاية المطاف.
لا شيء من هذا يعني أن البنوك لا بد أن تُمنَح عطلة تنظيمية وأن تنسى احتياجها إلى إعادة التمويل. ولكن كل هذا يشير في المقام الأول إلى أن التوقيت يشكل أهمية كبرى. ويتعين على المشرعين أن يتوخوا الحذر من فرض صدمة تنظيمية في الوقت الذي تعاني فيها الأسواق من صدمة مالية. ولهذا السبب فإن استنان معايير تنظيمية جديدة الآن، وتحديد مواعيد نهائية بعيدة في الوقت نفسه يشكلان استراتيجية معقولة.
ويتعين علينا ثانياً أن ندرك أن وجود التكاليف الانتقالية وحجمها يعني أن ليس كل شيء من شأنه أن يقلل من احتمالات وقوع الأزمة المالية يستحق أن نتبناه. ذلك أن الساسة المهوسين بالمصاعب الحالية، لا يبالون كثيراً بما إذا كانت الأزمة المقبلة قد تأتي بعد 50 أو 75 عاما. ونتيجة لهذا فإن تصميم الإصلاح التنظيمي لا بد أن يكون متوافقاً بالضرورة مع تقليص التكاليف قصيرة الأمد.
والواقع أن نسب رأس المال الأعلى ونسب السيولة تشكلان وسيلة واحدة من عدة توجهات في جعل النظام المالي أكثر أمانا. ومن الجدير بنا أن نفكر في تبني تدابير أخرى ـــ مثل تأمين رأس المال، أو إصلاح الحدود داخل صناعة المال، على طريقة بول فولكر.
لا شك أن التأمين ضد الأزمات في الأمد البعيد يستحق ما قد يكلفنا من ثمن. ولكن هذا لا يعني أن الإصلاح ليس بالضرورة أن يكون مجدياً من حيث التكاليف قدر الإمكان.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2010.
www.project-syndicate.org