عهود في سطح الحرم المكي (1 من 2)
كنت قد عزمت على أداء أهم اختبار في حياتي في شهر رمضان، ليس اختبار قياس أو الاختبار التحصيلي أو اختبار الثانوية العامة أو اختبار اللغة أو اختبار الدكتوراه الشامل، وليس اختبار الحصول على وظيفة أو منصب أو رخصة قيادة، وليس اختبار التقدم للخطبة، وليس اختبار مباراة كرة قدم بين ناديَّ وناديك، وليس اختبار جمال بشر أو حيوان، وليس أي من اختبارات الدنيا الأخرى المؤقتة الزائلة، ولكنه اختبار الحقيقة الأوحد، اختبار شامل، اختبار رمضان والعمرة في العشر الأخيرة منه. مع أمي وزوجتي وأولادي ـــ حفظهم الله وبارك فيهم وفيكم ـــ صمنا واعتمرنا وصلينا، ودعونا وتصدقنا، ونقضي الآن أياماً من العشر الأواخر في مكة المكرمة ـــ شرفها الله، فهل نجحنا في الاختبار؟ رمضان ليس إلا مدرسة، كلنا فيه طلبة، ومعلمنا ومقيمنا واحد هو الله، ندرس ونجتهد فيه لمدة 30 يوماً أو 720 ساعة، ونصلي فيه 150 فرضاً، ونتهجد فيه 660 ركعة، ونوتر وندعو فيه 30 مرة. وفي نهاية الشهر المبارك، كلنا، الكبير والصغير، والغني والفقير، والموظف والوزير، والرئيس والمرؤوس، والرجل والمرأة، يتم تقييمنا من قبل القاضي العادل، الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ فإما نجاح وإما رسوب، وإما جنة وإما نار؟ فإما رحمة ومغفرة وعتق من النار وإما شقاء وعذاب.
ينتظر المسلمون من المحيط إلى الخليج وفي الدول الأخرى، بل وفي العالم كله، شهر رمضان بفارغ الصبر، فهو شهر خصه الله ـــ سبحانه ـــ لنفسه ''إلا الصوم فإنه لي''، تتضاعف فيه الحسنات، والعمرة فيه تعدل حجة مع رسول الله، وفيه الاختبار الحقيقي كما قال الرسول ''.. من أدرك رمضان ولم يغفر الله له، فلا غفر الله له'' .. يهذب ويربي المسلم نفسه على ترك الأكل والشرب والغيبة والنميمة وجميع الأفعال غير السوية في نهار رمضان، ويعقد العزم والعهد على فعل الخيرات من صلوات في أوقاتها وأداء الأعمال المنوطة به بكل أمانة وحسن خلق مع الأهل والناس، وترك المحرمات من ترك أو إهمال الصلوات أو الظلم أو أكل المال الحرام رشوة كانت أو سرقة مال عام أو خاص أو استغلال منصب لمصلحة خاصة أو خيانة الأمانة والوطن. ونحن على مشارف نهاية شهر رمضان، وكلنا على وشك الانتهاء من أداء الاختبار، وكلنا أعطي كل الفرص الممكنة والعادلة، وكلنا أعطي الوقت الكافي، فمن منا نجح؟ ومن منا رسب؟ وما جوائز الناجحين؟ وما عواقب الراسبين؟ وهل لديهم دور ثان؟ وهل لديهم فرصة لإعادة الاختبار السنة المقبلة؟ وهل توجد واسطة أو أمر بشري لمساعدة الراسبين لتجاوز الاختبار دون استحقاق؟ وهل يوجد مدرسون خصوصيون لمساعدة الطلبة بطريقة وأخرى لتجاوز الاختبار؟ وهل توجد قوى بشرية أياً كانت عظيمة تقف وتعطل هذا الاختبار؟
برحمة من الله وغفرانه، فإن جوائز اجتياز اختبار رمضان تتدرج من رحمة في أوله، ثم مغفرة في أوسطه، إلى العتق من النار في آخره. من نجح هم أولئك الذين أقل ما يطلق عليهم أنهم ربانيون، وهم الذين وعدهم الله جنة الخلد، أكبر جائزة وأفضل سكن وأفضل صحبة. قد لا نعلم حق اليقين من نجح وكم كانت درجته ومكافأته، ولكننا قد نعلم أو ندرك ذلك من خلال ملاحظة علامات قبول الدعاء والصيام والقيام، من خلال التحسن الإيجابي الذي يلاحظه المسلم في نفسه ويلاحظه الآخرون عليه في رمضان وبعد رمضان، من خلال الممارسات والأخلاق الطيبة التي يتحلى بها المسلم في رمضان وبعد رمضان، من خلال تهذيب وتعويد النفس على أداء حقوق الله من صلاة وزكاة وحج، وعلى أداء حقوق العباد من حفظ وصيانة المال العام وأداء الأمانة بأحسن وجه والعدل مع الناس وعدم الظلم واحترام الطريق والمرور وإماطة الأذى عن الطريق، من خلال تدريب الذات على احترام الوقت وإدارته بأفضل الأساليب العلمية وبما يحقق أعلى ناتج ممكن، من خلال مراجعة ومحاسبة النفس كل ليلة عما تم إنجازه وخطة العمل لليوم التالي، من خلال ترتيب الوقت وتوزيعه بين حق الله وحق النفس وحق الأسرة وحق العمل، من خلال مراجعة وتحري مصادر المال قبل البحث عن أوجه الإنفاق، فلا نفع في إنفاق أيا كان، طالما كان مصدره حرام، من خلال التوبة النصوح عن ممارسة ما حرم الله من ظلم وسرقة مال عام أو خاص أو غيره، من خلال الطمأنينة والقناعة التي يشعر بها الإنسان في رمضان وبعد رمضان.
وفي كل الأحوال، علامات النجاح في الاختبار الرمضاني، وبالحد الأدنى، تظهر من خلال التغير الإيجابي في حياة الإنسان، تغير مستمر لا مؤقت، تغير صادق لا زائف، تغير قد يكلف الكثير وليس مجاناً، تغير يتطلب استثمارا كبيراً ولكنه يحمل عائداً أكبر، عهود إيجابية لا سلبية. فهل أنت من هؤلاء الناجحين؟ وكيف تعرف أنك كذلك؟ وإذا لم تكن، فهل تملك فرصة أخرى أو اختبار دور ثان لتعويض ذلك؟ وكم تعرف من أقاربك وزملائك وأصدقائك، عاشوا إلى السنة الماضية ولكن لم يكتب لهم صيام هذا الشهر مرة أخرى؟
في الجزء الثاني سنتحدث عن مجموعة الرمضانيين وكيف يتغير سلوكهم وأخلاقهم في رمضان وبعد رمضان، وكم شخصية يملكونها خلال السنة وفي المواسم الدينية وفي الأماكن المختلفة، وهل نجحوا في اختبار رمضان أم لم ينجحوا؟ وسوف نتحدث أيضا عن مجموعة المحرومين وكيف أنهم لا يفرقون بين رمضان وغير رمضان. كما سنتحدث عن جلسات ما بعد الإفطار وما بعد القيام الأول في سطح الحرم المكي، ومع مجموعة شباب من أبو ظبي، ودبي، وجازان، والرياض، وجدة، وإنجلترا، وتركيا، والجزائر، وليبيا، والمغرب، والعراق، وحتماً ودائماً مصر.
وللحديث بقية...