أيضحك مأسور وتبكي طليقة؟

تابعت باهتمام التصريح الذي صدر قبل بداية هذا الشهر الفضيل من الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجة وزير الثقافة والإعلام الذي أعلن من خلاله الفسح لكتب وزير العمل السابق الفقيد الدكتور غازي القصيبي، ندعو الله أن يمنن عليه بالرحمة والمغفرة ويسكنه فسيح جناته. تباينت ردود الفعل بين مرحّب ومستنكر و"منتقد" للخطوة، وعلى ما يبدو أننا تناسينا الدرس المهم الذي طرحه لنا كل منهما في فن التعامل الراقي مع القوانين والأعراف العلمية والثقافية. في بداية الأمر كنت أنظر إلى الكأس نصف فارغ، وتساءلت عن كيف ولماذا؟، ولكني تريثت قليلاً وصرفت تفكيري البسيط عن الخطوة بذاتها وحولته للنظر بتركيز أكبر على تلك الهامات الفكرية والأدبية التي ألهمتنا بدرس في التريث والمثابرة والنظر بنظرة إيجابية إلى ما ستؤول إليه الأمور مع احترام قوانين البلد الخاصة بالنشر التي كانت واضحة وجلية من الزمن البعيد وما زالت بالوضوح نفسه في زمننا هذا.
الفقيد الدكتور غازي القصيبي ـ رحمة الله عليه - غني أن يُعرِّف به مثلي، فقد كان عَلَما من أعلام الأمّة بل من أعلام الأدب والثقافة في العالم العربي. لقد بدأ مشواره الإبداعي الثقافي العلمي حينما كانت أمهاتنا تُرضعننا الحليب، كان كاتباً وأديباً، كان شاعراً وروائياً وفوق كل ذلك كان - يرحمه الله - إدارياً من الطراز النادر، فقلما تجتمع كل هذه المميزات في رجُل. لقد كان رمزاً وأنموذجا لجميع كُتّاب وكاتبات الوطن والخليج العربي. كتب الفقيد - رحمه الله - ولم يتوان أو يتوقف عن الكتابة، حتى إنه رثى نفسه بقصيدة وهو على فراش المرض. لم يطالب بفسح كتبه، لم يطالب بفسح دواوينه، لم يطالب بفسح رواياته، كان يعرِف قوانين النشر عن ظهر قلب، وكأنه ـ رحمة الله عليه ـ يعطينا درساً في احترام القوانين ليس فقط الخاصة بالنشر بل في كل منصب وزاري شغله وأدار بحنكة وحكمة راقية. فأين نحن من هذه الهامة الجبارة حتى نطالب بالمساواة في الفسح؟ ما نحن سوى تلاميذ ما زلنا على مقاعد الدراسة بالمقارنة بإنتاجية وإبداع ومهارة رجل عملاق ومبدع في مقام الفقيد الدكتور غازي القصيبي - رحمة الله عليه.
ولا يزال الدرس مستمراً، فلننظر إلى رد الدكتور عبد العزيز خوجة وزير الثقافة والإعلام على من أنتقده وانتقد الخطوة الشجاعة بفسح كتب الدكتور غازي القصيبي ـ رحمة الله عليه ـ، فرد معاليه أثبت لنا أننا ما زلنا صِغاراً نتعلم الرُقي بأنفسنا إلى عالم الكبار، نتعلم النظر إلى الثقافة والإبداع من أوسع أبوابها وليس من الزاوية الضيقة المتسرعة في الحكم، ونتعلم المعنى الحقيقي للمقولة الشهيرة "ليس كل ما يلمع ذهباً". دعونا نسرد رد الوزير ونرى كيف يرد الكبار ونتعلم منهم بدلاً من أن ننتقدهم. أرسى الوزير القاعدة الأساسة في الطرح إلا أن الأصل في النتاج الإبداعي والثقافي والفكري هو الفسح وليس المنع، واتبع ذلك ببيان المعايير الأساسية للمنع وهي: أولا: الإساءة للذات الإلهية (بعيدا عن التأويل والتعسف)، ثانياً: الإساءة للرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم وبارك - (بعيدا عن التأويل والتعسف)، ثالثاً: الإساءة إلى المؤسسة السياسية في المملكة (بعيدا عن التأويل والتعسف)، رابعا: الإساءة إلى الوحدة الوطنية "التخوين-  التكفير- العنصرية" (بعيدا عن التأويل والتعسف). إذاً هناك قوانين وقواعد للنشر، ولا يوجد من هو فوق هذه القواعد والقوانين ولنا في الدكتور عبد العزيز خوجة أكبر دليل وعِبرة.
والله إني شعرت بحال هذا الرجُل، فها هو يجلس على قمة الهرم الثقافي والإعلامي في المملكة وله دواوين لم يُفسح عنها بعد، هنا يكمن الدرس الحقيقي، فعلى الرغم من النقد المباشر لمعاليه، أفصح ـ حفظه الله ـ أنه لن يطالب بفسح الدواوين ولن يستخدم سلطته الحالية لذلك، وسيترك ذلك لمن يأتي بعده لإدارة الوزارة. لقد ذكرني درس معاليه ببيت في قصيدة أبي فراس الحمداني يقول:

أيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكت محزون ويندب سالٍ

من المؤسف أني قرأت بعض المقالات التي ربطت فسح الكتب والدواوين والروايات بوجودها على الإنترنت، أقول إن الإنترنت توجد بها ملايين المواقع المحظورة، فوجودها على الإنترنت ليس بالضرورة فسحها. دعونا كما أسلفت ننظر إلى الإبداع الثقافي من أبوابه الواسعة، فالثقافة الحقيقية هي فتح الأذهان للتعلم من تلك الهامات الثقافية العالية، والذود في الإبداع ومساندة من ساندونا في المسيرة الثقافية، فهل تعلمنا الدرس؟ أترككم أعزائي القراء مع قصيدة أبي فراس الحمداني ففيها الكثير لنتعلم منه:

أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا هل تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقتِ طارقة النوى ولا خطرتْ منك الهموم ببالِ
أتحمل محزون الفؤاد قوادم على غصن نائي المسافة عالِ
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحا لدي ضعيفة تردد في جسم يعذب بالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكت محزون ويندب سالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غالِ

لكم دعائي بدوام الصحة والعافية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي