ملاحظات نقدية على الخطاب القومي

تؤدّينا المطالعة النقدية للخطاب القومي العربي إلى بناء جملة من الاستنتاجات والأحكام لعل أهمها الاستنتاجات التالية:

#2#

1- تطغى على الخطاب القومي كثافة أيديولوجية عالية في طريقة وعيه قضاياه كما في طريقة التعبير عنها. من الواضح أنها أعلى في الخطاب السياسي الحركي لشدِّة حاجته إلى اللغة الأيديولوجية، لكنها أيضاً ليست قليلة في النص التنظيري أو ما يُحسب أنه كذلك. إن الفرضيات التي يصدر عنها معظم المفكرين القوميين ويبنون عليها صروحهم وأطروحاتهم إنما هي – في الأعمّ الأغلب – فرضيات أيديولوجية؛ والأيديولوجيُّ فيها يبدو على وجوه مختلفة: اختراع “حقائق” ليس عليها دليل من التاريخ (= الأمة العربية الموحدة من قديم الزمان)، افتراض وقائع حديثة ومعاصرة جزئية وموضعية لا تنطبق على المجال العربي كله ولا تقبل التعميم ثم بناء فكرة الوحدة عليها (= التجزئة الكولونيالية “الشاملة”)، تنزيل عوامل الماضي ومواريثه (= اللسان، التاريخ...) منزلة الدينامية الأساس للتوحيد القومي بدلاً من عوامل الحاضر والمستقبل (= المصلحة المشتركة)، النظرة الصوفية والرومانسية إلى الأمة ورسالتها في العالم ...إلخ. وإذا أضفنا إلى أيديولوجية البناء الفرضي في الوعي القومي (أي إلى الطابع الأيديولوجي لذلك البناء) صور التعبير عن الأفكار القومية، من لغةٍ أيديولوجية مكتنزة بمفردات القطع واليقين وبأحكام القيمة، اجتمعت الشواهد الدالة على ما سميناهُ بطغيان الكثافة الأيديولوجية. وهذا، بالتحديد، ما يدعونا إلى إطلاق صفة الخطاب عليه بدلاً من صفة الفكر.

2- يرتبط بتضخُّم الأيديولوجي في الخطاب القومي، ويتلازم معه تكويناً وتطوُّراً، فقرٌ نظريٌّ ومعرفي يستبد به وتنكشف معه تناقضات الأيديولوجية ومفارقاتها. وإذا كانت القومية - أية قومية - فكرة أيديولوجية بالضرورة. وإذا كان ذلك لا يعيبها في شيء لأن الأيديولوجيا تتصل بالمصلحة، والمصالح مشروعة في الحياة الإنسانية والاجتماعية - ومنها مصلحة أمة في تحقيق وحدتها القومية - فإن ما يعاب على الفكرة القومية العربية أنها لم تُبن على مقتضى نظري رصين ولا جرى توسُّل أدوات المعرفة في ذلك البناء. إن الأكثر مما كتبه المثقفون القوميون العرب في مسائل الأمة والدولة والوحدة والبناء الاجتماعي - الاقتصادي يفتقر إلى التقاليد العلمية في الكتابة والبحث، ويطغى فيه منهج تقريري استعراضي يناسب النص السياسي أو الصحفي. ومع أن ثقافة بعضهم كانت واسعة، واطلاعه على مصادر الفكر الإنساني جيّد - وتلك على الأقل حال ساطع الحصري وقسطنطين زريق ونديم البيطار - فإن الاستفادة منها في إنتاج نص نظري غني ورصين في المسألة القومية تكاد تكون في حكم المنعدم: ما خلا في حالة نديم البيطار. وعلى الرغم من أنه في وسعنا أن نعذر أكثرهم بسبب الانغماس في العمل القومي الحركي والاستجابة المستمرة لنداء الظرفية، إلا أن من كانوا منهم بعيدين عن أجواء المؤسسة (الدولتية أو الحزبية أو الشعبية) ومطالبها، وقريبين من البيئة الأكاديمية، لم ينهضوا بالعبء العلمي المطلوب منهم فاكتفوا من المهمة بأقلها كلفة: كتابة عموميات أقرب إلى التبشير منها إلى التحليل! والنتيجة أن الخطاب القومي افتقر إلى النظرية وتضخم بالأيديولوجيا.

3- أسس الفقر المعرفي في الخطاب القومي لحالات من الاضطراب فيه كان أظهرها افتقاره إلى الانسجام الداخلي، أو الاتساق المنطقي، وقيامه على مفارقات شديدة؛ فهو إذ يدافع عن وحدة الأمة، يتعايش فيه معنيان للأمة لا ينسجمان: معنى عصري أو حديث للأمة مستقى من الفكر السياسي الإنساني الحديث، ومعنى تقليدي موروث منحدر من التاريخ الماضي وتمثلاته الحديثة ومشبَّع بالمفهوم الديني للأمة. وهذا التركيب الهجين بين المعنيين هو الذي ينتج ذلك التلازم الماهوي بين العروبة والإسلام في بعض الفكر القومي العربي - كما عند زكي الأرسوزي وميشيل عفلق ومحمد عزة دروزة - لا بما هو تعبير عن جدلية تاريخية من التواشج بين الحدين ما انقطعت في تاريخ العرب، بل كتماثل وتطابق يعني الواحد فيهما الآخر. ومن ذلك، أيضاً، التسليم بمقدمة سليمة مقتضاها أن عملية التوحيد القومي العربي عملية صراعية في وجه معوقاتها (التجزئة والاستعمار والصهيونية والتخلف العربي والنخب السياسية المستفيدة من استمرار التجزئة...)، وبناء استنتاجات عليها مجافية، بل نقيض، من قبيل القول إن ما يمنع الوحدة (هو) غياب إرادة النخب الحاكمة. وقس على ذلك من مفارقات يزخر بها.

4- يكتنف الخطاب القومي العربي قدرٌ عالي النسبة من الرومانسية الثورية غير متناسب وممكنات الواقع الموضوعي. وليس موطن الرومانسية تلك في فكرة الوحدة بما هي الأسّ والقضية الأساس فيه، فالفكرة مشروعة وتاريخية وقابلة للتحقق على المدى البعيد، وإنما موطنها تصور تحقيقها تصوراً يفتقر إلى الواقعية. ففي هذا التصور نظرة طوبوية تحول الحلم إلى واقع والواقع إلى وهم؛ وبمقتضاها ينظر إلى الوحدة كإمكانية فورية يُقاس مداها الزمني بالسنوات لا بالأجيال، وفي المقابل تبدو “الدول القطرية” القائمة لحظة انتقالية آيلة إلى زوال. الوحدة، في هذا التمثل الطوبوي، هي الواقع؛ الواقع الذي كان ومحته التجزئة والذي سيعود بعد محو التجزئة. أما الدولة القطرية، عنده، فليست من الواقع في شيء، إنها محض وهم يراد له أن يصبح أمراً واقعاً فواقعاً لا سبيل إلى نقضه. يغيب الواقع، في هذه المعادلات الذهنية، ويهبط معدل الواقعية والحس التاريخي في التفكير إلى درجة فادحة التبعات. أما العلة في هذه الرؤية غير الواقعية وغير التاريخية إلى مسألة الوحدة، فهي الفرضية التي يصدر عنها الوعي القومي والذاهبة إلى القول إن فعل التجزئة وقع على أمة موحدة، وهي عينها الفرضية التي، إذ تتخيل تاريخاً وحدوياً غير حقيقي، تذهل عن رؤية العوامل الداخلية الكابحة للوحدة في الوطن العربي فتنتهي، بهذه الكيمياء التي تجمع بين التاريخ المتخيل والواقع المغضى عنه، إلى نظرة إرادوية لعملية التوحيد القومي يحل فيها الرغبوي محل الموضوعي.

5- الخطاب القومي العربي خطاب ثقافي أكثر مما هو فكر سياسي. أكثر ما أنتجه، منذ عشرينيات القرن العشرين، سرديات ثقافية في مسائل تدور حول معنى الأمة كاللغة، والتاريخ، والهوية، والعروبة، والثقافة القومية، والانتماء المشترك ... إلخ، لكنا لا نكاد نجد في رصيده نظرية - أو تصوراً نظرياً - في مسألة الوحدة أو الدولة القومية، والحال إن هذه من أمهات مسائل الفكر القومي في كل مجتمع وأمة في العصر الحديث. إن تضخم فكرة الأمة ومصادر تكوينها، والإغراق في التشديد على جوامع الشعور واللسان والتاريخ، مقابل فقر فكرة الدولة وهامشية مسألة الوحدة فيه، في جملة الأسباب التي أخذته نحو استسهال النظر إلى عملية التوحيد القومي وافتراضها - على مثال افتراضي أفلاطوني يرى العلم تذكراً - عودة للأمة إلى حقيقتها، أو روحها، واستعادة لماهية أصابها شَوْبٌ من خارجها. وفي الظن أن النظر هذا لا بد مسلم فكر القوميين إلى متاهات أيديولوجية تفضحها مفردات مضطربة الكينونة والمواقع بحيث تمتد مساحة التعبير والإعراب فيها من الصوفية إلى الشعبوية! في كل أيديولوجية حيز من السياسة كبير، تنجح الأيديولوجيات في التعبير عنه تعبيراً عالما أو تعبيرا عموميا (أيديولوجيا ولا نقول عاميا). أما في الأيديولوجيا القومية العربية فالحيز من السياسة لا تتبيَّن قضاياه لا بلغة المعرفة النظرية ولا بلغة علم السياسة ولا حتى باللغة الأيديولوجية - السياسية، وإنما من طريق لغة إنثروبو - ثقافية يختلط فيها التاريخي بالشعري (اليوتوبي) بالمتخيل.

6- يعاني الخطاب القومي، في مصادره الفكرية الأساس، فقرا فادحا في التشبع بالقيم الديمقراطية. قلنا المصادر الأساس، ونعني بها نصوص كبار أقلامه كالحصري ونديم البيطار وعفلق والريماوي وسيف الدولة، ولا يكاد يشذ عن الحكم هذا سوى قسطنطين زريق وياسين الحافظ، أما الذين أفاضوا في التمسك بالمحتوى الديمقراطي للمشروع الوحدوي العربي، منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، مثل هشام جعيط ومحمد عابد الجابري وبرهان غليون وعلي أومليل وعزمي بشارة ...، فلم يكونوا قوميين بالمعنى الأيديولوجي - العقائدي؛ كانوا باحثين وحدويين أو ملتزمين قضية الوحدة العربية. وليس من شاهد على فقر ذلك المحتوى الديمقراطي في الخطاب القومي أكثر من أننا لا نعثر فيه - عدا عن غياب الدفاع عن نظام ديمقراطي عصري لدولة الوحدة - على أي تفاؤل شجاع لمسألة القلات (“الأقليات”) في الوطن العربي وحقوقها الديمقراطية المشروعة في المجتمع العربي. فلقد سُكِت عنها تماما قبل أن يتجرأ ياسين الحافظ على طرحها في بداية السبعينيات فيذهب بها برهان غليون - بعده بقريب من عقد من الزمن - إلى مستوى من التفاؤل أبعد. من النافل القول إن هذه الاستنتاجات ليست كل ما يمكن أن نشتقه من ملاحظات نقدية على الخطاب القومي العربي، لكنها - قطعاً - في جملة أهم ما يطالع الباحث فيه بأدوات التحليل والنقد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي