دول المنطقة.. الاختيار بين تحفيز النمو أو ترشيد الإنفاق

تثير مسألة السبيل الأفضل لمعالجة تحديات الأزمة المالية العالمية جدلا واسعا في الأوساط الاقتصادية سواء المحلية أو الإقليمية أو العالمية، فهناك من يرى أن النمو الاقتصادي ما زال ضعيفا، وهذا يتطلب المزيد من التحفيز المالي لإبعاد شبح الركود بأي وسيلة، لكن في المقابل هناك من يطالب بضبط الإنفاق وترشيده لتجنب تفاقم المديونية السيادية والاكتفاء بما تم ضخه حتى الآن من أموال لتحريك الأسواق وتوفير المناخ الملائم للاستثمار والنمو المستدام.
هناك إجماع على أن الوضع الاقتصادي ما زال هشا سواء على الساحة العالمية أو المحلية، فهناك تباطؤ في معدلات النمو في أمريكا من 5% في الفصل الرابع من عام 2009 إلى 3.7% في الفصل الأول من عام 2010 و1.6% في الفصل الثاني منه، ويعتبر الاتجاه النزولي هذا أهم من المعدلات نفسها، لأنه قد يكون مؤشرا لعودة الركود أو دخول الاقتصاد في دورة تراجع الأسعار (Deflation). الوضع في ألمانيا أفضل منه في دول منطقة اليورو الأخرى، إلا أن أوروبا ما زالت مهددة بتفاقم أزمة الديون السيادية، كما أن الوضع الاقتصادي في اليابان قد يكون أسوأ حالا مما هو في أمريكا وأوروبا.
ليس هناك أرقام موثوقة عن معدلات النمو الاقتصادي في دول المنطقة للفصلين الأول والثاني من هذا العام، غير أن كافة الدلائل تشير إلى أن القطاع الخاص لم يستعد بعد كامل ثقته وهو ما زال مترددا في الاقتراض للتوسع أو لشراء العقارات أو للابتداء في مشاريع جديدة، كما أن المصارف ما زالت تأخذ مخصصات مالية لمواجهة الديون المعدومة أو المشكوك في تحصيلها، وهذا أثر في أرباحها للنصف الأول من هذا العام وفي قدرتها في الإقراض. وسجلت أسواق أسهم دول المنطقة تراجعا في الأداء حتى الآن هذا العام، كما أن معظم دول المنطقة غير النفطية لديها عجز في موازناتها العامة وارتفاع في المديونيات الحكومية. لذا نجد أن رؤوس الأموال تندفع نحو السندات، خاصة السيادية منها، والتي تعتبر ملاذا آمنا للاستثمار في أوقات الأزمات. وعلى سبيل المثال، فلقد انخفض العائد على سندات الخزينة الأمريكية لفترة عشر سنوات من 4% في بداية العام إلى أقل من 2.5% أخيرا، والألمانية من 3.3% في أول العام إلى 2.2% الآن، واليابانية من 1.8% إلى أقل من 1%، في حين وصل العائد على سندات الخزينة الأمريكية لسنتين إلى أدنى مستوياته التاريخية في حدود 0.5 في المائة.
الذين يعارضون سياسة التحفيز المالي يعتبرون أن زيادة الإنفاق العام من قبل الدولة عن طريق إقامة مشاريع التشييد والبناء وغيرها لن تكون فعالة ولن يتحقق النمو المستدام ما لم يستعد القطاع الخاص ثقته. وهؤلاء يشيرون إلى التجربة اليابانية في تسعينيات القرن الماضي حيث لم تنجح السياسة المالية التوسعية وما رافقتها من ارتفاع في الدين العام والذي وصل إلى عشرة تريليونات دولار أو 200% من الناتج المحلي الإجمالي الياباني على حفز النمو الاقتصادي، وعانت اليابان من سنوات ركود طويلة. فمشاريع التشييد والبناء بطبيعتها ذات آجال متوسطة إلى طويلة الأمد وتتطلب عدة سنوات لتظهر فعاليتها، ومع أن مثل هذه المشاريع قد توفر فرص عمل جديدة إلا أن فقدان الثقة لدى المستهلك والمستثمر سيؤدي إلى زيادة الادخار أو إلى سداد الديون أو إعادة تمويلها بدلا من تحفيز الاستهلاك والتوسع في الأعمال. وبمجرد انتهاء برامج التحفيز والضخ المصطنع للمال في الدورة الاقتصادية سيزول الطلب الإضافي وسيتباطأ النمو، تماما كما حدث للاقتصاد الأمريكي أخيرا.
أما الذين يؤيدون سياسة التحفيز المالي فهم يعتبرون أن السياسة النقدية التوسعية وأسعار الفائدة المنخفضة ربما لا تكون فعالة أو كافية للخروج من دورة الركود خاصة إذا ما وقع بفخ السيولة (liquidity trap)، أي أنه حتى مع انخفاض أسعار الفائدة إلى درجة متدنية جدا وقريبة من الصفر فهذه لن تكون كافية لتحفيز الاقتراض. فقبل أن يعود الطلب الداخلي إلى الارتفاع لن تتشجع الشركات على التوسع والاقتراض مهما كانت تكلفة الدين منخفضة. كما أن ارتفاع نسبة البطالة وتقلص ثروة المستهلك وتخوفه من المستقبل لن تشجعه على أخذ قروض جديدة، بل نراه يفضل الاحتفاظ بالسيولة النقدية سواء بشكل ودائع مصرفية أو سندات حكومية سائلة.
السؤال الأهم يبقى: ما السياسات التي يجب اتباعها لاستعادة ثقة المستهلك والمستثمر وتحقيق النمو المستدام (Sustainabl growth)، فمثل هذا النمو يجب أن يتحقق في قطاعات الاقتصاد المنتجة من صناعة وزراعة وسياحة وخدمات، وكل هذا يصعب تحقيقه عن طريق المزيد من الإنفاق الحكومي، بل سيتأتى من تنامي نشاط القطاع الخاص وعودة الثقة إليه.
إن السياسات المالية التوسعية الداعمة للسياسات النقدية، وعددا متلاحقا من الحزم التحفيزية ستسرع الخروج من دورة الركود الحالية غير أنها قد تحمل في طياتها بذور أزمة مديونية مستقبلا، وهذا يتطلب العودة إلى تقليص الإنفاق وزيادة الضرائب مع ما يصاحب ذلك من ارتفاع في أسعار الفائدة ومعدلات التضخم، وهذا ما يخشاه المستثمر والمستهلك، لذا ستكون فعالية مثل هذه الحزم التحفيزية محدودة والطلب الإضافي سيزول بمجرد انتهاء برنامج التحفيز.
وقد يكون من الأفضل لحكومات دول المنطقة اتباع سياسات مالية أكثر توازنا للحفاظ على نسب مديونية مقبولة في حدود 60% من إجمالي الناتج المحلي، فهذا يعطي مصداقية للسياسة المالية ويبعث برسالة واضحة إلى الأسواق بأن الحكومة حريصة على تحقيق الاستقرار المالي وبالتالي سيطمئن المستثمر والمستهلك بأن تكلفة الإقراض لن ترتفع مستقبلا، ولن تزيد الضرائب وستبقى معدلات غلاء المعيشة عند مستويات مقبولة. والأهم أن الدولة ستكون قادرة على مواجهة المشاكل والأزمات إذا ما حدثت مستقبلا.
لم تختلف دول المنطقة عن التوجه العام الذي اتبعته الدول الكبرى في مجال التحفيز الاقتصادي، سواء في السياسة المالية أو السياسة النقدية. فالعديد من دولنا اتبعت خلال السنتين الماضيتين سياسات مالية توسعية عكسية للدورة الاقتصادية الهابطة (Counter cyclical). فعلى سبيل المثال، سجلت المملكة العربية السعودية عجزا في ميزانيتها العام
الماضي عندما كان سعر برميل النفط في حدود 61 دولارا، في حين أنها حققت فائضا في الميزانية عام 2003 عندما كانت الأوضاع الاقتصادية منتعشة، مع أن معدل سعر النفط كان عند 30 دولارا للبرميل. والإنفاق العام السعودي الذي يمثل أعلى نسبة من إجمالي الناتج المحلي على مستوى مجموعة العشرين يواصل تقديم الدعم لتعافي اقتصاد المملكة.
وقد تسمح الفوائض المالية لدول المنطقة النفطية أن تضع موضع التنفيذ سياسات مالية توسعية وحزم تحفيز متتالية دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى تفاقم العجز في موازناتها العامة أو ارتفاع في مديونياتها. فإذا ما حافظت أسعار النفط على معدلات تفوق 50 دولارا للبرميل هذا العام، وهو المعدل المقدر في ميزانيات معظم دول مجلس التعاون الخليجي لعام 2010، فإنه سيكون في مقدور هذه الدول مواصلة الإنفاق المخصص في ميزانيتها لهذا العام. أما بالنسبة للبحرين ودبي والدول العربية المستوردة للنفط مثل لبنان والأردن وسورية ومصر والمغرب، فإن وضعها المالي يبقى هشا والميزانيات العامة ما زالت تشكو من العجز، لذا فهي ليست في وضع يسمح لها باتباع حزم تحفيز مالية متتالية لأن ذلك سيؤدي إلى تفاقم المديونية. إن ما تحتاج إليه هذه الدول هو استعادة ثقة القطاع الخاص والاكتفاء بما تم ضخه من أموال خلال العامين الماضيين لتحريك الأسواق.
ولا يمكن اعتبار العجز في الموازنة وارتفاع المديونية ثمنا مقبولا لتحقيق ارتفاع مرحلي في النمو، والذي يتباطأ من دون شك عندما يتوقف التحفيز المالي، وعلى العكس من ذلك فإن تخفيض العجز وضبط المديونية يوفران المناخ الملائم ويطمئنان المستهلك والمستثمر ويبعثان برسالة واضحة للأسواق بأن الحكومة لن تسمح للمديونية أن تخرج عن نطاقها المقبول لكيلا يتأصل التضخم في الاقتصاد فتعود الثقة ويتحقق بالتالي النمو الحقيقي المستدام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي