الجابري .. ورشة بناء للثقافة والمعرفة وداعية لتدشين عصر تدوين عربي جديد

آذن مشروع نقد العقل العربي بتحّول حاسم في رؤية الراحل الكبير الدكتور محمد عابد الجابري إلى موضوع التراث وكيفيات استشكاله، وإلى نوع الفرضيات الأدعى إلى المقاربة والبحث، والوسائط المنهجية والمنظومات المفاهمية الأكثر إجرائية في ذينك المقاربة والبحث قبل صدور الجزء الأول من هذا المشروع في عام 1984م، اتصل الراحل ـــ وطيلة ما يزيد على عقد ونصف العقد ـــ بإشكالية التراث بحثا وتأليفا، وأصدر أعمالا ذات أثر في الدراسات الإسلامية ودراسات الفكر العربي ـــ الإسلامي الوسيط، منها أطروحته للدكتوراه في مسألة العصبية والدولة عند ابن خلدون ـــ وقد ناقشها في عام 1970م ودراساته التي أنجزها، في النصف الثاني من السبعينيات، عن الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون، وجمعها ـــ مصدّرة بمقدمة تنظيرية ـــ في كتابه نحن والتراث، غير أن نقد العقل العربي أتى مختلفا عمّا سبقه في الإشكالية والمنهج وأبعد عمقا وغنى، من ذي قبل، في الآفاق التي فتحتها مقاربته أمام البحث العلمي.

#2#

كان الراحل الكبير قد انشغل جامعيا بتدريس فلسفة العلوم والايبيستيمولوجيا المعاصرة، فانصرف ـــ بين نهاية الستينيات ومنتصف السبعينيات ـــ إلى قراءة أعمال جاستون باشلار وجان بياجي، وجورج كانغليم، ودوزانتي، والجماعة العلمية الرياضية الحاملة اسم بورباكي، وجاك لاكان، فضلا عن قراءة ألتوسير المزدهرة نصوصه وأطروحاته حول العلم والايديولوجيا في ذلك العهد.

ولقد أفاد من ذلك أيّما إفادة في مجاله الدراسي الأثير على نفسه، مجال الدراسات التراثية، وأتى ذلك ما شهدناه من استثمار منهجي لمفاهيم الدرس الايبيستيمولوجي في تحليل المادة التراثية عنده، خاصة في دراساته المضمومة إلى بعضها في كتاب نحن والتراث، ولقد بدأ توظيفه لمفاهيم: التكوين، والأزمة، والعوائق الايبيستيمولوجية، والقطيعة الايبيستيمولوجية، والمنظومة المرجعية، وإعادة تأسيس الأسس.. ثورة في المنهج والرؤية إلى موضوع التراث في ذلك الحين.

لم يكن عقد السبعينيات قد انصرم، حتى كانت إشكالية التراث قد بلغت في وعي محمد عابد الجابري ذروة في البناء النظري بعد طول اختيار واتصال.
من يقرأ منّا اليوم كتابه ـــ الخطاب العربي المعاصر ـــ وقد أراده مقدمة لكتاب نقد العقل العربي ـــ يلحظ أن فكرة النقد عنده في طورها الجديد نضجت بما يكفي لتنتج نصا استراتيجيا في ميدان الدراسات التراثية، فلقد يسترعي قارئ الكتاب أن النقد الذي وجهه الراحل للخطاب العربي المعاصر ـــ في تجلياته كافة: النهضوية، والسياسية، والفلسفية ـــ هو عينه النقد الذي سرت مفرداته في سائر أجزاء كتابه عن نقد العقل العربي، وهي ملاحظة تعزيز الاعتقاد لدى القارئ بأن الخطاب العربي المعاصر كتب في ضوء نقد العقل العربي وليس العكس، أعني في ضوء رؤية إجمالية إلى نقد العقل تصدق أحكامها النقدية في ما خصّ العقل الوسيط ـــ إن صح التعبير ـــ على العقل الحديث والمعاصر أيضا، بل أساسا. إن ذهابه بالتحليل النقدي للخطاب العربي المعاصر إلى الاستنتاج أن الخطاب هذا محكوم بآلية الاقتباس، وبسلطة النص، ثم بسلطة النموذج ـــ السلف، ودعوته إلى التحرر المزدوج من السلطتين المرجعيتين للتراث والغرب وتحقيق ما أسماه بـ ''الاستقلال التاريخي للذات العربية'' (مستلهما العبارة من أنطونيو غرامشي)، ثم إن دعوته إلى تدشين عصر تدوين عربيّ جديد...، إنما هي علامات شديدة الدلالة على أن مشروع نقد العقل العربي اختمر فكرة في وعي الفقيد الكبير، واتخذ هيئته قبل أن يكتب بسنوات ثلاث على الأقل، فأتت موضوعاته النظرية، ومعطياته التحليلية النقدية، واستنتاجاته العامّة، تعرض نفسها مبكرا في نقده للخطاب العربي المعاصر.

***
سبق لي أن تناولت، في مناسبات مختلفة، كلا أو بعضا، وبالعرض والتحليل، مشروع نقد العقل العربي: في مناقشة نظمها اتحاد كتاب المغرب ـــ للجزء الثاني منه ''بنية العقل العربي'' بمنظور مؤلفه الراحل، وكان ذلك في عام 1986م بعد صدوره مباشرة، وأعدت نشر مساهمتي في كتابي: إشكالية المرجع في الفكر العربي المعاصر.

وفي مقالة موسعة عن المشروع بعد اكتمال أجزائه الأربعة نشرتها ـــ قبل سنوات ـــ في جريدة ''الحياة'' اللندنية، ثم في مساهمة لي في كتاب تكريمي للراحل صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت قبل خمس سنوات، وأخيرا في فصل موسع عقدته لفكر الراحل الدكتور الجابري في الجزء الثالث من كتابي: العرب والحداثة، الذي ما زلت في طور إنجاز فصوله الأخيرة، ولكثرة ما قلته وكتبته في مشروع نقد العقل العربي، لن أكرر ـــ في هذه المناسبة ـــ ما سبق التعبير عنه، وإنما سأنصرف إلى إلقاء ضوء سريع على أمور أربعة رئيسة أخال أنها جديرة بالبيان لكل من قرأ أو سيقرأ رباعية نقد العقل العربي:

أولها.. أن هذا المشروع ـــ بأجزائه الأربعة ـــ يمثل منعطفا معرفيا حاسما في مجال دراسات التراث العربي ـــ الإسلامي الكلاسيكي، فهو نقل التفكير في تاريخ الفكر الوسيط من نقد التراث إلى نقد العقل. من نقد المعرفة العربية ـــ الإسلامية الكلاسيكية بما هي منتوج إلى نقد العقل الذي أنتجها، أي إلى نقد جملة الآليات المعرفية الحاكمة لعملية التفكير في نطاق تاريخ الثقافة العربية. لم يكن أحد من الدارسين العرب للتراث، محدثين كانوا أم معاصرين، قد ضاهى الفقيد الكبير في تأسيس موضوع دراسيّ جديد، بل في فتح أفق دراسيّ جديد، غير محمد أركون الذي شاطره الموضوعة ذاتها ''نقد العقل'' مع اختلاف بينهما في التعيين والتسمية. ولقد أصبح عسيرا، اليوم، على أي باحث في ميدان التراث ـــ عربيا ومسلما كان أو مستشرقا ـــ أن يقدم إضافة معرفية جديدة في هذا الميدان إن لم يبدأ من حيث انتهى الراحل، فيذهب بإشكالية نقد العقل إلى مداها الموضوعي مطلا على مساحات أخرى، منها ما تسنى للراحل طرقها أو يستحدث أخرى أشمل أو نظيرا يرتفع بها سؤال المقاربة التحليلية ـــ النقدية عند معدّل الرؤى والقراءات المألوف راهنا في هذا الميدان. لقد كنا مع محمد عابد الجابري ـــ في مشروعه لنقد العقل العربي ـــ أمام ثورة حقيقية في الموضوعة: موضوعة البحث، لا يمكن التراجع عنها من دون تعريض التفكير العلمي في التراث الثقافي الكلاسيكي إلى انتكاسة.

وثانيها.. أن أدوت التحليل والنظم المفاهيمية المعتمدة في مقاربة موضوعات المشروع النقدي عنده صقلت على نحو من الكفاءة والعناية بحيث أقامت ـــ من طريق تجربتها الناجح ـــ دليلا على حسن إجرائيتها وعمق نجاعتها، فإلى أن مفاهيم العقل، والنظام المعرفيّ واللا شعور السياسي، والمخيال الجماعيّ، والأزواج المفهومية، والمنظومة المرجعية، والتكوين والبنية، والأزمة المعرفية وإعادة تأسيس الأسس...، أثرت مقاربته الفكرية لمسألة التراث وفتحت أمامها إمكانيات نظرية مذهلة، فإن طريقة إعماله هذه المنظومة المفاهيمية في تحليل المادة التراثية ودراستها كانت من المرونة والتكييف الخلاّق، حيث أصاب من توظيفها حظا من النجاح كبيرا.

لقد كان الجابري ـــ باستمرار ـــ مثالا للباحث اليقظ إزاء مسائل الصلة بين المنهج والموضوع، فلم يتمذهب لمنهج على حساب آخر، وإنما عدّ قيمة المنهج من قيمة ما يقدمه للموضوع المناسب، وما انفك يردد رأيا مقتضاه أن الموضوع هو ما يحدد المنهج ويضفي عليه قيمته. والأهم من وعيه اليقظ للصلة بين المنهج والموضوع تعامله الحاذق مع المفاهيم التي يستعيرها من غيره من المفكرين، فلقد كان شديد الحرص على تهيئتها لأداء وظيفة استعمالية غير مألوفة. وليست التهيئة تلك غير ما سمّاه بالتهيئة، وهي كناية عن فعل إخضاع المفاهيم المستعارة لمنطق الموضوع الذي تقع ـــ أو تشتغل ـــ عليه، أي إعادة بناء معناها في ضوء معطيات الموضوع الجديد على استعمالها وبعيدا عن أي منزع إسقاطي. لقد بلغ ذلك التكييف ذروته في مشروع نقد العقل العربي، وتبينت معه كفاءة الفقيد النادرة في السيطرة على موضوعه وأدوات التحليل.

وثالثها.. ما أداه نقده العميق للعقل العربي وللسّلط الحاكمة له (أعني سلطة اللفظ، وسلطة الأصل، وسلطة التجويز) من استنتاجات نظرية في غاية الأهمية والقيمة على صعيد تصوّر أو رؤية مستقبل الفكر العربي، وأهم تلك الاستنتاجات ـــ فيما يعنينا في الموضوع الذي نحن فيه ـــ أن نقد العقل العربي ينبغي أن يكون لحظة معرفية انتقالية وليست نهائية، أي أن يكون معتبرا ـــ لا مفرّ منه ـــ نحو لحظة معرفية أعلى هي: إعادة بناء هذا العقل على أسس معرفية جديدة، وهذا الهدف ـــ فيما يرى الفقيد الكبير ـــ يتحقق فقط من طريق ما سماه تدشين ''عصر تدوين عربي جديد'': تتحرر فيه الثقافة العربية من الآلية القياسية الحاكمة للتفكير وما يرتبط بها من سلطات معرفية كأبنية مثل سلطة النص وسلطة النموذج ـــ السلف، وتتحرر فيه من سلطة التجويز وما يرتبط بها من نظرة سحرية ولا عقلانية إلى العالم تسقط السببية وتطرح العقل وترفع الحدس والذوق إلى مقام آلة العلم وأداته... إلخ. وهكذا يمنح الراحل الكبير النقد معنى شديد الإيجابية والفاعلية، فهو عنده ليس محض وسيلة هدم وتقويض لعمران ثقافي خرب ومتهالك، وإنما هو أيضا ـــ وأساسا ـــ ورشة بناء وإعمار للمعرفة والثقافة.

#3#

ورابعها.. أن المشروع النقدي هذا بلغ نصابا من السّعة والشمولية في مادته وموضوعه لم يبلغه غيره من المشاريع في الفكر العربي المعاصر، خاصة تلك التي تكرست لدراسة تاريخ الفكر العربي ونقده. منذ أحمد أمين ـــ قبل زهاء 60 عاما من اليوم ـــ ما قرأنا عملا فكريا بهذه الرحابة يتحرك بين اللغة، والنحو، والبلاغة، وأصول الفقه وعلم الكلام، والفلسفة والتصوف، ويقرأ ما بين اختلافات حقولها من جوامع ومشتركات، على نحو ما فعله الراحل الكبير محمد عابد الجابري. ولقد يجوز أن يقال ـــ وإن كان المعرض ليس معرض مقارنة بين عالمين جليلين ـــ إنه فيما كان عمل أحمد أمين تاريخيا استعراضيا للثقافة العربية الكلاسيكية، أتى عمل محمد عابد الجابري تحليلا نقديا لذلك التاريخ. وحين نقرأ اليوم رباعية نقد العقل العربي، وما وراءها من مادة مرجعية كثيفة وإمبرطورية النطاق تحتسب عددا بمئات أمهات مصادر الفكر العربي الكلاسيكي، لا تكفينا تلاوة فعل الاعتراف بموسوعية ثقافة الراحل الكبير، وإنما يمسي في وسعنا أن نقول ـــ من غير مبالغة أو تزّيد ـــ إن المرحوم الجابري نهض بدور لا يقوى عليه رجل واحد، بل فريق عمل موسع من المفكرين والباحثين من اختصاصات مختلفة. وهذا وحده يكفينا شهادة دامغة على أننا أمام مفكر استثنائي بالمعنى العميق للكلمة.

***
لم يجترئ أحد على محرّمات الوعي العربي كما اجترأ محمد عابد الجابري، في نقد العقل العربي، وبعض قليل من أترابه ومجايليه من المفكرين العرب النقديين. لكن الجابري تفرَّد من دون النقديين جميعا باحترامه التراث الذي انتقده، والتمسك الثابت بإعلان الانتماء إليه، ورفض قراءته برؤية عدمية. لكنه آثر أن يمارس وفاءه النبيل لهذا التراث بطريقته التي لا يساوم عليها تحت أي ظرف.. المصارحة. كان صريحا مع ما أحب، فقال في التراث ما ينبغي أن يقال فيه، من دون تملق وتبجيل على طريقة السلفيين الدوغمائيين، ومن دون تحقير وتكبر على طريقة الليبراليين العدميين مثل جده الكبير ـــ أبي الوليد بن رشد ـــ وقف الموقف السوّي المتوازن، ولكن في مسألة أخرى مختلفة وأكثر صعوبة، كان على حفيد ابن رشد أن ينتج معادلة شديدة التعقيد، مقتضاها أن نقيم صلتنا بالتراث كثيرا وأن نقرأه بعقل نقدي أكثر، فخير وفاء له نقده، ولقد ترك فينا ـــ ولنا ـــ ما لن ننساه له من مآثر: كتابا تتعلم منه كيف نمارس الوفاء والانتماء بلسان النقد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي