غازي القصيبي ورداء الإنسانية
أشعر بالألم وأنا لم أكتب عن الدكتور غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ إلا بعد رحيله, ولا شك أن هذا من أبرز عيوبنا تجاه الرواد، إلا أن ألم وفاته ألمّ بي وهزّ مشاعري فما كان عليّ إلا الاستجابة وقول شيء مما يعتلج في نفسي تجاه هذه الشخصية الأسطورة التي اتفق المنصفون على مثاليتها وبروزها كمدرسة رائدة مستقلة في مسيرة العمل الإداري والسياسي والأدبي والديني.
سأقولها بكل أمانة وتجرد إن الدكتور غازي القصيبي كان ملهمي الأول حين كنت طالباً في الثانوية العامة وهو يتربع على هرم وزارة الصناعة والكهرباء. لقد جذبتني قسراً تلك الشخصية في تلك الفترة التي لم يكن في قريتي أي أثر أو مؤثر في الثقافة والأدب، ما ولّد عندي آنذاك الرغبة والهمة في أن أواصل تعليمي حتى الحصول على درجة الدكتوراه والعمل كأستاذ جامعي كإعجاب بغازي القصيبي الدكتور المثقف البارع في عمله وحديثه أينما حل.
أمانة الدكتور غازي تتجلى بوضوح في عمله الإداري ونظافة يده ولسانه, وهذه جوانب لن أتحدث عنها لأن غيري فعل ذلك، لكن سأتحدث عن أمانته في دوائر الثقافة والأدب، فمما يحسب له في هذه المناحي أنه لم يستخدم مصطلحاً أو جملة أعجبته إلا وينسبها إلى صاحبها بكل تجرد, وسأكتفي بمثال واحد على هذه الملاحظة يتمثل في قصيدته «سيدة الأقمار», فقد استعار هذا العنوان لكنه لم يشرع في قصيدته حتى ذكر صاحب المصطلح «سيدة الأقمار», وهو الكاتب الراحل عبد الله الجفري ـ رحمهما الله. أقول هذا وأنا ألاحظ في الوقت نفسه أحد المشهورين في ديارنا الذي استخدم في مؤلفاته مصطلحات عديدة للكاتب الأمريكي الشهير ديل كارنيجي دون أن يشير إلى اقتباسه تلك المصطلحات.
كل حضارة إنسانية لها جوانب مشرقة ومنها الحضارة الغربية, ومع الأسف, أن القليل هم من استفاد من هذه الجوانب المضيئة في الحضارة الغربية, والدكتور غازي بلا شك أحد هؤلاء القلائل الذين تبنوا هذه الجوانب الجميلة, وسأورد هنا بعض الأمثلة على هذه الميزة في أسلوب القصيبي، فعند حديثه مثلاً عن الشاعر البحريني عبد الرحمن رفيع يقول: عبد الرحمن رفيع وأنا، أما في الثقافة العربية فيقول واحدنا أنا وفلان. وحينما قرر ترجمة كتاب «العلاقات الدولية» لجوزيف فرانكل إلى اللغة العربية لم يقدم على ذلك إلا بعد موافقة المؤلف. وفي هذا الجانب أيضاً لم يسع ـ رحمه الله ـ إلى تبرير عدم فوزه في «اليونسكو» خلال ترشحه لقيادة هذه المؤسسة الدولية على الرغم من بلوغه المرتبة الثانية من بين 11 مرشحاً، بل إنه قال في محاضرة له عن هذا الموضوع إنه يتحمل بمفرده المسؤولية في عدم فوزه في هذا الترشيح, وإن كنت شخصياً لا أتفق معه ـ رحمه الله ـ في وجهة النظر هذه.
حين كنت طالباً في الجامعة تم افتتاح أحد المستشفيات في منطقة عسير فبعث أحد زملائي الطلاب رسالة عادية إلى الدكتور غازي حين كان وزيراً للصحة يشكره فيها على هذا المشروع، وكانت المفاجأة التي نزلت على الطالب كالصاعقة وصول رسالة رد من الوزير يشكر الطالب على مشاعره ويؤكد في الرسالة أن ما قام به في صميم الواجب، وقام الطالب بعرض رسالة الدكتور غازي على الطلاب تحت تأثير نشوة الفخر والسعادة. وفي موقف شخصي آخر لم أستطع الحصول على اثنين من كتبه المثيرة فبعثت إليه رسالة بهذا الشأن حين كنت مبتعثاً للدراسة في بريطانيا والدكتور غازي ـ رحمه الله ـ يعمل سفيراً لبلادنا في لندن آنذاك، وبعد أسبوع واحد فقط من إرسال الرسالة إلا والكتابان بين يدي.
كثيرون كتبوا عن الدكتور غازي الإداري والسياسي والأديب، إلا أن براعته وإحاطته بمسائل الشريعة وقضايا الثقافة الإسلامية لم تنل الاهتمام الكافي من قبل النقاد والمتابعين، فمن يطلع على كتابه الصغير الحجم الكبير الفائدة «ثورة في السنة النبوية» يلمس إحاطته المذهلة بأبعاد القضايا الفقهية، كذلك كتابه الآخر في المجال الديني «حتى لا تكون فتنة», الذي أبدى فيه بما لا يدع مجالاً للشك قدرة فائقة على المعرفة والحوار والرد والشجاعة في قول الرأي، إذ لم ينحن للسهام التي هاجمته أثناء أزمة الخليج على أثر زاويته الشهيرة «في عين العاصفة»، فرد على هذا المد المتشدد بأسلوب علمي منهجي وقارع الحجة بالحجة ولم يعمد إلى التجريح رغم الكلمات الجارحة التي وُوجه بها، وأبدع على أثر ذلك كتابه المذكور.
وإذا كان هناك شيء ينبغي الحديث عنه في المجال الأدبي مما لم يعط اهتماماً كما نالت أعماله في الشعر والرواية تأتي السيرة الذاتية كواحدة من أشهر إبداعاته، فكتابه الفريد «سيرة شعرية» بجزءيه يمثل عملاَ أدبيا فريداً يتسم بالتسلسل الأخاذ لحياة القصيبي الشعرية منذ نعومة أظفاره حتى حقبة السفارة، كذلك كتابه المدوي «حياة في الإدارة» الذي يأتي ضمن أدب السيرة الذاتية وإن كان يتحدث عن مجال الإدارة.
لقد هُوجم الدكتور غازي على دوره في وضع برامج للأنظمة في معهد الإدارة العامة، وها نحن اليوم نرى بعض كليات الشريعة تتبارى في وضع برامج للأنظمة التي أخذ على الدكتور غازي تبنيها في السبعينيات. وهُوجم أيضاً في بداية التسعينيات وها نحن نرى مهاجميه الآن وقد تبدلت آراؤهم، فمنهم من يقول إن تلك حقبة قد مضت ونحن ننتظر الآن من الدكتور غازي المزيد ليس هذا فحسب, بل إن منهم مَن يدعي الآن صداقته، ولا شك أن كل هذا يشير إلى تفرد القصيبي وبُعد نظره في المسائل والقضايا التي تبناها.
موقف سياسي إنساني نبيل يجب أن يسجل للدكتور غازي ـ رحمه الله ـ ولا يجوز أن نغفله في هذه المقالة, فقد سُئل ذات مرة عن رأيه في صدام حسين بعد أن وقع في أسر القوات الأمريكية، فقال بإنسانية متفردة: ليس من الرجولة أن ننتقد إنساناً وقع في الأسر وأصبح مسلوب الإرادة. رحم الله الدكتور غازي رحمة واسعة، ولقاؤه ربه في شهر رمضان من حُسن الخاتمة ـ إن شاء الله.
جامعة الملك خالد