التقدم التقني .. مكمن الخلل عبر مراحل التأهيل العلمي والفني
أكدت في المقالين السابقين على أن هناك ضعفا شديدا في قدرة قطاعات التعليم، وكذلك التدريب على تأهيل شبابنا تأهيلا تقنيا يجعلهم قادرين على البناء التقني وعلى الابتكار والتصنيع والإنتاج والمنافسة الداخلية والخارجية في سوق العمل، وهذا الضعف موجود عموما في التعليم العام والتدريب التقني وفي كل الجامعات السعودية بنسب مختلفة، وهذا أمر تعترف به بشفافية بعض الوزارات؛ مما يدفعها للبحث في أسباب هذا الخلل ومواضعه وتتّبع أفضل الحلول المقترحة له، كثير من منسوبي التعليم العالي يُلقون اللوم في ضعف مخرجات الجامعات على ضعف مخرجات التعليم العام، وهذا الضعف تثبته تقارير وإحصاءات مركز القياس والتقويم وغيرها من الدراسات والتصريحات عموما، وفي المقابل كثير من منسوبي التعليم العام يُبرّرون هذا الضعف بالضعف في تأهيل أكثر المعلمين الذين ما هُم إلا مُخرجات للتعليم العالي، وهذه أيضا حقيقة في بعض جوانبها لا ينكرها أحد!! إلا أننا لا ينبغي أن نتوقف عند تبادل التهم واللوم ونظل ندور في حلقة مفرغة! لا تنتهي، بل يجب أن نبحث عن حل لإصلاح وترميم مناهجنا وإعادة توزيعها بشكل صحيح أفقيا ورأسيا بحسب مراحل التعليم المختلفة، كما ينبغي أن نبادر مباشرة في تدريب معلمي تلك المناهج على محتواها وأفضل الطرق والتقنيات لتدريسها، وهذا لن يتحقق بالشكل المطلوب ما لم نفتح القلوب والآذان لكل المهتمين من المختصين والمفكرين ورواد الأعمال بالمشاركة في تشخيص الحالة وتبني الحلول الأفضل عبر التفكير والحوار الجماعي العميق المبني على تجربة وممارسة وبحث علمي منهجي وتقييم وتحليل يهدف لبناء الوطن ويضع المصالح والنظرات الشخصية الضيقة بعيدا ويُغلب مصلحة الوطن على الآراء أو الأهواء الشخصية.
هناك جهود بارزة وواضحة من وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي ـــ مشكورتين ـــ لحلحلة هذه المشكلة ولكن بشكل أفقي فقط!! أي على مستوى كل وزارة فقط، مع ضعف التكامل على مستوى المحور الرأسي ليكون الحل شاملا، والحقيقة أن القيادة ككل تدرك هذا التحدي؛ لذا لم تكتفِ بانتظار الحل من تلك الوزارات، بل مع مطالبتها بإصرار لتطوير عملها ودعمها القوي في هذا الاتجاه دفعت منذ عام 1427هـ بقوافل المبتعثين عبر برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث في أفضل الجامعات من مشارق الأرض ومغاربها، كما صدر القرار بتأسيس مشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم عن مجلس الوزراء في أواخر العام الهجري 1427هـ وبشكل وموازنة مستقلتين عن وزارة التربية والتعليم، إذ يرتبط المشروع بخادم الحرمين الشريفين مباشرة، عبر لجنة وزارية، وحسب إطلاعي على تقارير هذا المشروع المنشورة في موقعه الرسمي على الإنترنت عن برامجه وأهدافه، أجد نفسي أكثر تفاؤلا، هذا المشروع كرَّس نفسه للعمل على أربعة محاور، هي محور المناهج، ومحور المعلم، ومحور البيئة التعليمية، ومحور النشاط غير الصفي، وهذا أمر في غاية الروعة إلا أن المشروع أيضا يركز على حل المشكلة بشكل أفقي في مرحلة التعليم العام فقط، بينما من يقوم بالتدريس هم خريجو جامعاتنا السعودية ـــ عشرات الألوف ـــ لا بد من إعادة تأهيل من تخرج منهم عبر تدريبهم بشكل مكثف في المناهج التي يدرسونها وإصلاح المناهج والخطط الدراسية لمن هم في مراحل الدراسة أو لم يبدؤوا بعد، هنا دعني أشخّص المشكلة من وجهة نظري على مستويين كما يلي:
أولا: على مستوى التعليم العام: في رأيي لا تكمن المشكلة في محتوى مناهجنا بقدر ما تتكرس في:
1.ـ طريقة توزيع تلك المناهج.
2.ـ طرق تدريسها بشكل تفاعلي محبب للطلاب يراعي الفروق الفردية النفسية والذهنية للطلاب.
3.ـ ضعف قدرة معظم معلميها على شرحها بالشكل الصحيح ضمن الخطة الزمنية المقررة أو عدم استعدادهم نفسيا للتدريس أصلا.
ولمن يرفض لمجرد الرفض أو يشكك في حاجتنا الكبيرة إلى تطوير مناهجنا وإعادة ترتيب أوراقها أطرح أمامه هذه التساؤلات:
ــ لِمَ بعد 12 عاما من تعلم طلابنا الكتابة والإملاء لا يميز أكثرهم بين همزتي الوصل والقطع وبين الضاء والظاء وما ''ظهر أعظم''؟
ــ لِمَ بعد 12 عاما من تعلم طلابنا ''قواعد اللغة العربية'' بشكل مكرر لدرجة الملل ـــ لا يميز أكثرهم بين المبتدأ والخبر وبين المرفوع والمنصوب والمجرور وبين الأسماء والأفعال الخمسة.
ــ لِمَ بعد 12 عاما من تعلمهم قراءة القرآن والتجويد والتفسير لا يجيد أكثر الطلاب قراءته كما ينبغي.
ــ لِمَ بعد ست سنوات من تعلمهم اللغة الإنجليزية لا يستطيع أكثرهم قراءة أبسط الجمل أو فهمها ولا يميزها حين يسمعها حتى كأنه لم يدرسها أبدا، وكرر تلك الأسئلة في بقية المناهج فإن وجدت حلا غير الحاجة إلى التطوير وتغيير الخطط والأساليب فأخبرني.
ثانيا: على مستوى التعليم الجامعي: في رأيي تتمثل المشكلة فيما يلي:
1.ـ محتوى معظم المناهج خصوصا التقنية ضعيف وقديم ولا يراعي التطور السريع في التقنية.
2.ـ الخلط بين مفهوم التعليم العام وبين التعليم الجامعي المتخصص متمثلا في الخطط الدراسية.
3.ـ عدم تماشي التخصصات الدقيقة مع احتياج سوق العمل، إذ هناك بطء بيروقراطي في إيقاف تخصص وفتح آخر بحسب الحاجة والطلب والأهمية.
4.ـ ضعف قدرة معظم أعضاء هيئة التدريس شرح تلك المقررات بالشكل الصحيح ضمن الخطة الزمنية المقررة أو عدم اهتمامهم بذلك أصلا.
وهنا لا بد أن أشير إلى أهمية الفصل في الاختصاص بين مراحل التعليم العام المعني بتأسيس الطلاب في المواد عامة وبين التعليم الجامعي الذي من المفترض أن يكرس سنوات الطلاب وأوقاتهم لتعلم وإتقان التخصص، وهذا هو أحد الفروق الكبرى بين تعليمنا الجامعي وبين التعليم الجامعي في كبرى جامعات الدول المتقدمة، وللتأكيد عملت مقارنة بسيطة بين خطة الدراسة لمقررات قسم هندسة البرمجيات في جامعتين بريطانيتين وبين جامعة الملك سعود، وهي من أفضل جامعاتنا وأيضا الكليات التقنية، وأضع أمامك النتيجة:
ــ في جامعة أوكسفورد بروكيس Oxford Brookes University تبلغ نسبة المواد العامة إلى مواد التخصص 14 في المائة فقط، وهي مرتبطة بشكل غير مباشر في التخصص وتتمثل في المقررات التالية: نظرية الرسم البياني graph theory وطرق الدراسة باستخدام مهارات تقنية المعلومات، والرياضيات Discrete mathematics.
ــ في جامعة هيريوت وات Heriot-Watt University تبلغ نسبة المواد العامة إلى مواد التخصص 6.5 في المائة فقط، وهما مقرران في الرياضيات Discrete mathematics.
ــ في جامعة الملك سعود تبلغ نسبة المواد العامة إلى مواد التخصص 38 في المائة، وهي تشمل عددا من المقررات، بعضها مرتبط والبعض الآخر غير مرتبط بالتخصص، ومنها الرياضيات والفيزياء والثقافة الإسلامية واللغة الإنجليزية والمهارات اللغوية والإحصاء وعلم الإدارة والاتصال الخطابي وتحرير التقارير والإسلام وبناء المجتمع والنظام السياسي في الإسلام والنظام الاقتصادي في الإسلام.
ــ في الكليات التقنية تبلغ نسبة المواد العامة إلى مواد التخصص في برنامج الدبلوم (سنتين) 50 في المائة، وفي برنامج البكالوريوس (سنتين إضافيتين) 53 في المائة، وهي تشمل عددا من المقررات، منها الثقافة الإسلامية واللغة العربية والفيزياء والكيمياء والرياضيات واللغة الإنجليزية والتوجيه المهني ومهارات الاتصال والسلوك الوظيفي والإحصاء والإدارة الصناعية.
ختاما، من المستحيل تأهيل طلابنا تقنيا ليكونوا قادرين على البناء والابتكار والتصنيع والإنتاج التقني مع هذا الكم الهائل من المواد العامة في فترة التخصص!! الجامعي، هل يُعقل أن يتقن الطالب الحد الأدنى في تخصص الإلكترونيات في سنتين فقط في الكليات التقنية مثلا مع نسبة مواد عامة تعادل 50 في المائة من إجمالي المواد لا ترتبط بأي شكل بالتخصص، في مثل هذا ناقشت أحد عمداء كليات جامعة الملك سعود فقال مستنكرا هؤلاء الخريجون منهم من سيكون قياديا أو إداريا؛ لذا لا بد من تأهيلهم في ذلك كله! فسألته: أيهم أكثر إتقانا وأكثر نضجا إداريا نحن أم الدول المتقدمة؟ فأجاب بلا تردد: هم طبعا، فسألت: لكنهم غالبا لا يدرسون أي مواد عامة لا ترتبط بالتخصص في الجامعة ويكتفون بذلك في مراحل التعليم العام والتدريب على رأس العمل والتطوير الذاتي.
،، ودمتم بخير وسعادة.