وصفات نجاح سريعة
في منتصف التسعينيات الميلادية، وإبان دراستي في الولايات المتحدة، عدت للمملكة في إجازة قصيرة لزيارة الوالدة حفظها الله، وأثناء الإجازة ذهبت للإدارة العامة للجوازات لإنهاء بعض المعاملات الرسمية، وسررت للتطور السريع الذي لاحظته في طريقة تنظيم العمل، وخصوصاً في مجال إعادة هندسة العمل ومنها على سبيل المثال التفريق بين الأفراد والمؤسسات في الخدمات، وهذا حصل خلال فترة وجيزة منذ آخر مرة زرتهم. كان انطباع جميع العملاء، وأنا أحدهم، جيداً في ذلك الوقت، مما جعلني أذهب لمقابلة مدير عام الجوازات في حينها، وبعد تقديمي لشخصي، أعربت له عن مدى الرضى والتقدير الذي نشعر به حيال هذه التطورات التي تصب في مصلحة الوطن والمواطن، وقد أجاب سريعاً بشكره لهذا الشعور وخصوصاً من شخص يعيش في دولة متقدمة مثل أمريكا، وأشار إلى أنهم ما زالوا في البداية وهناك الكثير من الأعمال التطويرية التي يخططون لها.
يمكن لجميع الجهات الحكومية أن تقوم بتحسينات سريعة للخدمات المقدمة للمواطنين، من خلال التركيز على تقديم أفضل خدمة للعميل (ليس المراجع) وبأسرع وقت وأنسب طريقة، مع تحسين سياسات وإجراءات العمل وتطوير الموارد البشرية ذات العلاقة بالعميل، بدلاً من الاعتماد على الأجهزة والتقنية فقط في التطوير، والتي لا يمكن لوحدها أن تحسّن من الخدمات. ولعلنا هنا وبمناسبة الشهر الفضيل، نستعرض وصفات تحسينية سريعة لتحسين الخدمات المقدمة في بعض الجهات الحكومية.
1 ــ الآباء والأمهات: تربية وتعليم الأطفال ليست كتربية القطط، يحتاجون فقط إلى السكن والغذاء. أبناؤنا يحتاجون إلى أفضل تعليم في المدرسة والبيت، وقدوات وإشراف ومتابعة يومية، وتعلم الالتزام والأدب، وجلسات وقتية ذات جودة عالية، ومناقشات وحوارات حضارية وتربية حديثة، وليس إلى الاعتماد على الخادمة والسائق في كل شيء. وندعو من هنا إلى التخلص نهائياً من الخادمة، والاعتماد كلياً في توزيع وتنفيذ جميع أعمال البيت على أفراد البيت، أباً وأماً وبنتاً وابنا، وبتعاون أفراد كل أسرة يمكن لنا تربية كفاءات وأجيال يمكن الاعتماد عليها في بناء الوطن بشكل أفضل.
2 ــ المجلس الاقتصادي الأعلى: قد يكون الوقت قد حان أكثر مما مضى لتطوير خطة استراتيجية شاملة، مع مراجعة وتقييم الاستراتيجية الوطنية الصناعية، وخصوصاً في ظل التأخير في تنفيذها والتغيرات التي حصلت على إدارتها، وخطط مشاريع التخصيص مع إعادة النظر في مدى مناسبة بعضها للتخصيص طالما أنها مستمرة في الاعتماد على ميزانية الدولة وتستفيد فقط من صلاحيات ومرونة الصرف، وخطط مشاريع المدن الاقتصادية والاستثمار الأجنبي، ونقل قطاع الاقتصاد من وزارة المالية إلى وزارة التخطيط مع ربط واعتماد إعداد ميزانية الدولة مع خطط التنمية، حتى يكون لهذه الخطط فائدة عملية.
3 ــ مجلس الشورى: من المناسب والضروري، وبعد عدة دورات اعتمدت على تقييم أداء القطاعات الحكومية بناءً على التقارير المقدمة منها، التحول إلى تقييم أداء الجهات الحكومية بناء على مؤشرات أداء يتم تحديدها داخل مجلس الشورى ومن خلال اللجان المختصة، مع تقييم مدى تحقق هذه المؤشرات من خلال فحص وتقييم ميداني. كما قد يكون من المناسب في هذا التوقيت العمل على تبني وطرح مقترحات مشاريع، مثل إنشاء هيئة عامة للمشاريع للتأكد من جودة والرقابة على مشاريع تمثل أكثر من (75 في المائة) من ميزانية الدولة، وتسد فجوة تنظيمية في هذا المجال، وبالاعتماد على التخطيط الاستراتيجي الشامل، وإعادة هيكلة القطاعات الحكومية، للمساهمة في رفع مستوى أداء وفاعلية القطاعات الحكومية، مع الاستفادة من تجارب دول أخرى مثل سنغافورة والنرويج والبرازيل، وقد فصلنا في هذه المواضيع في مقالات سابقة.
4 ــ ديوان المراقبة العامة: من الأفضل للديوان ربط مراجعة المستندات الورقية بالمراجعة الميدانية وتقييم عدالة ومعقولية أسعار المشاريع من خلال متخصصين وخبراء في المشاريع، مع تطبيق نظام مراجعة وتقييم مستمر، وهنا فقط وفقط يمكن تحقيق نتائج إيجابية أفضل لعمل الديوان، مع رفع مستوى وفاعلية الرقابة العملية والميدانية والمالية.
5 ــ هيئة الرقابة والتحقيق: أيضاً هنا الاعتماد على المستندات الورقية والتركيز على مواضيع مثل الالتزام بالدوام يحد من فاعلية الهيئة، لذلك من المناسب أولاً تنسيق العمل من ناحية مع ديوان الرقابة العامة ووزارة المالية، وثانياً التركيز على متابعة وتقييم أعمال وأداء القطاعات الحكومية بطريقة استباقية وليس كردة أفعال أو بناء على معلومات فقط.
6 ــ الدفاع المدني: هناك جهود كبيرة لهذا القطاع وتمس المواطن بشكل كبير، ومع استشهاد عدد من أفراد الدفاع المدني أثناء أداء واجباتهم، ومع التوسعات في المدن والخدمات، قد يكون من المناسب بناء خطة استراتيجية تشغيلية وبشرية تتناسب مع التوسعات الجغرافية والسكانية وقطاع الأعمال، كما نقترح أن يتم تطوير برامج تدريبية وتوعوية لأفراد المجتمع والمدارس والجامعات، والتواصل إعلامياً مع المجتمع. وقد يكون التوقيت مناسباً أيضاً لإنشاء مركز وطني لإدارة الكوارث مع مراكز قيادة وتحكم، حفظنا الله وإياكم من كل شر، وذلك لضمان وجود صلاحيات وتنسيق وتكامل وخطة تنفيذ واضحة بين الدفاع المدني وجميع قطاعات الدولة مثل الأمانات والمستشفيات وغيرها، مع إعداد دراسات ومشاريع تتناسب مع ظروف واحتياجات المملكة، وتطوير أنظمة معلوماتية جغرافية وآلية متقدمة تساعد في إدارة أعمال الدفاع المدني.
7 ــ المرور: لعل نظام رصد المخالفات ''ساهر'' بداية عملية ومشجعة لأعمال تطويرية لإدارة المرور تسهم بشكل فاعل في تقليل الحوادث وضبط نظام الحركة والمرور ورفع مستوى ثقة المواطن، مع تفعيل مشاركة المواطن في مشاريع إدارة المرور كما أشرنا إليه بالتفصيل في مقالة سابقة.
8 ــ وزارة العمل: من الواضح أن مشكلة سعودة سوق العمل تتزايد وتتفاقم بشكل كبير، مما يوحي بعدم فاعلية الحلول الحالية للتعامل مع المشكلة، وضرورة البحث عن حلول أكثر مناسبة وقابلية للتطبيق وتحقيق النتائج المرجوة حتى لو كانت مؤلمة، مع البحث بشكل أفضل عن وسائل وحلول للتعامل مع مشكلة عدم دقة المعلومات الخاصة بسوق العمل.
9 ــ وزارة الاقتصاد والتخطيط: بالنسبة لهذه الوزارة، ينبغي إعادة النظر في طريقة عملها وتكامل نشاطاتها مع الجهات التنفيذية وخصوصاً وزارة المالية، فدون وجود ربط بين خطط التنمية وميزانيات الدولة، قد يكون من الصعب الاستفادة من هذا النوع من الخطط. كما أن الاعتماد فقط على اقتصاديين في وضع خطط التنمية غير عملي، فهناك حاجة إلى خبراء في التخطيط الاستراتيجي والمهندسين والماليين لتطوير خطط استراتيجية شاملة كما فعلت دول مثل سنغافورة والنرويج.
10 ــ وزارة المالية: هذه الوزارة مثقلة بمهام ونشاطات قد تحد من تركيزها وفاعليتها، مع محدودية الموارد البشرية المتخصصة. وزارة المالية تعنى بأنشطة كثيرة جداً منها على سبيل المثال إعداد ومتابعة الميزانية، وتقييم واعتماد المشاريع، والإشراف على المشاريع من الناحية المالية (وليس من الناحية الفنية)، ومتابعة واعتماد وصرف مستخلصات المشاريع، والجمارك، والزكاة والدخل، وصندوق الاستثمارات العامة، ومؤسسة النقد، ومصلحة أملاك الدولة، وإدارة المصروفات، والقروض، والأنشطة الاقتصادية. وقد يكون قد حان الوقت لتفكيك الوزارة وتوزيع أعمالها بطريقة تضمن رفع مستوى الأداء وتضمن التركيز. كما أن هذا التشتت وكثرة الأعمال قد تكون تسببت في انخفاض متابعة المصروفات الحكومية وخصوصاً على المشاريع، وهذا يتضح من خلال منح بعض الجهات الحكومية مرونة مالية في الصرف، رغم أنها تحصل على ميزانياتها من الدولة. كما أنه ليس تحدياً مراقبة الصرف والحد منه في حالة محدودية الميزانيات المتاحة للجهات، ولكن التحدي الحقيقي هو المراقبة والضبط في حالة وجود مبالغ مالية كبيرة متاحة كميزانيات، حيث يمكن توفير بعضها للاستثمار للأجيال القادمة، والتي تتمشى مع سياسات وتوجهات خادم الحرمين الشريفين ـــــــ حفظه الله.
11 ــ وزارة التربية والتعليم: لضمان تحسين مخرجات التعليم، قد يكون من الأفضل إعادة النظر في المنهجية والجهاز المستخدم في التطوير. فمن خلال تجارب تطوير التعليم على مدى العقود السابقة، لم تتغير الطريقة المستخدمة في التطوير، فما زلنا نرى التركيز على التقنيات والمباني والمناهج على حساب تطوير وحسن اختيار المعلمين والمعلمات وتغيير طريقة ومنهجية التعليم. أما الاعتماد على جهاز ذي خلفية تعليمية صرفة في التعليم، وعلى شركات عالمية كانت أو محلية في التطوير، فقد يكون غير مناسب مهما كانت الاجتهادات الشخصية في هذا المجال. وهناك أيضا شركاء ينبغي التعاون معهم في تطوير أو إصلاح التعليم، ومن أهمهم آباء وأمهات الطلاب، والمعلمين والمعلمات أنفسهم، والقطاع الخاص، والقطاع الإعلامي، مع ضرورة وجود تواصل إعلامي مفتوح وشفافية كاملة.
من خلال إجراء بعض التحسينات السريعة، والتي تصب في التحسينات طويلة الأجل، يمكن الحصول على نتائج إيجابية تصب في مصلحة الوطن والمواطن. ما يلزم لتحقيق هذه التحسينات: وجود الرغبة والعزيمة والإرادة، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، والبعد عن الاستعراض والبهرجة الإعلامية والرقابة القوية. ومع إخلاص النوايا لله لخدمة الوطن والوطن فقط، يمكننا، وخلال فترة وجيزة، الوصول بالوطن إلى أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
وللحديث بقية.