تأملات رمضانية! (1 من 4)
جاء اختيار المولى عزّ وجلّ، جلتْ حكمته الصيف؛ ليبدأ فيه المسلمون صوم رمضان، لأول مرة صيفا شديد القيظ، كأنه قطعة من نار.. وكابد المسلمون عطشًا فوق الطاقة.. وحار العقل لماذا هذه البداية الصعبة؟! ولماذا لم يسبق اليُسرَ العسر؛ ليحبِّب الله ــ تعالى ــ رمضان لجموع البشر..؟! ثم تجلت الحكمة بعد ذلك حين اضطر بعض المسلمين اضطرارا قهريا إلى كسر الصوم بشرب الماء حين تصوروا أنهم كانوا على وشك الهلاك.. ولكنهم من شدة الخجل اضطروا ألا يخبروا الآخرين وتظاهروا بأنهم مستمرون في صيامهم.. ولكنهم كابدوا ألما من نوع آخر، وهو ألم احتقار النفس لكذبهم وريائهم ونفاقهم.. يشهدون الناس على صيامهم، ولكن الله يعرف الحقيقة.. وكان ذلك مدخلا للمسلمين ليعرفوا الهدف الأول من الصيام, وكان أيضًا مدخلا للإنسانية لتعرف المعنى الحقيقي لمبدأ من أهم المبادئ الأخلاقية وقيمة من أهم القيم السامية ألا وهي الإخلاص.. وهو أعلى درجات الصدق مع النفس، فلا يعنيك إلا الله - عز وجل - المطلع على سريرتك، فتعمل ما يرضاه هو وحده، وتتقيه في قولك وفعلك، وبذلك تسود قيم أخرى في المجتمع من أهمها الأمانة وهي الابنة الشرعية الأولى للإخلاص.. وفي الإخلاص يتأكد لك واحد من أهم المشاعر الأساسية في الإسلام وفي علاقة الإنسان بربه، وهي: هناك قناة مفتوحة دائما ومباشرة بين الإنسان وخالقه.. لا وسيط.. ولا مانع.. بل أنت مرحب بك في كل وقت للقاء المباشر للإفضاء بسرك وعرض حالك وطلب الحاجات للدنيا والآخرة ومن أهمها المغفرة، حيث أمرنا ألا نيأس من رحمته، إن الله يغفر الذنوب جميعًا إلا أن يشرك به.ما أعظم فضائل شهر رمضان المعظم, الذي نؤدي بصيامه أحد الأركان الخمسة للدين الإسلامي الحنيف, وتغرس في نفوسنا قوة الإرادة, وصدق العزيمة, حتى نحظى بجزائه الأوفى مصداقا لقوله تعالي في الحديث القدسي: ''كل عمل ابن آدم له, إلا الصوم فإنه لي, وأنا أجزي به''. والصيام جُنَّة بمعنى وقاية، وقال الرسول الكريم ــ صلى الله عليه وسلم ــ: ''الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة''.
رمضان هو شهر الفرحة.. مثلما يفرح العالم المتشوق بالاكتشاف المذهل لحقيقة اكتشافاته..، هكذا يشعر الصائم بأنه ليس فقط يحب الله بل هو يمرح ويرتع تحت مظلة حب الله له؛ لأنه العبد المؤمن الصابر الذي يحتمل.. وكلما زادت وطأة القيظ زادت رضا.. يا سبحان الله.. من قلب المعاناة الجسدية تنبع السعادة النفسية.. ويكتشف الإنسان جدلية العلاقة بين الجسد والروح.. أي ذلك الحوار وتلك التبادلية بين التكوين المادي والتكوين المعنوي.. الأول من تراب والثاني من نور.. فيض من نور الله..!
ليس ثمة في القرآن الكريم من الأسماء الحسني ما هو أكثر اقترانا أحدهما بالآخر من العليم, والحكيم, والعزيز, والحكيم, فهنا اجتماع لصفتين ليستا متلازمتين بالضرورة.. إشراق الحكمة وسعة العلم, أو إشراق الحكمة والعزة أي؛ القوة التي يكون مصدرها سعة العلم, قد نرى امرأ محيطًا بالعلوم، غزير المعارف، تعوزه الحكمة, (كمثل الحمار يحمل أسفارا), وقد تكون الدولة عزيزة قوية, وسياستها مع ذلك أبعد ما تكون عن السياسة الحكمية (الولايات المتحدة بعد أحداث11 أيلول (سبتمبر), وعند الله أن الوضع الأمثل في حال البشر هو اجتماع الصفتين كما اجتمعتا فيه: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيما), فعظمة الملك إذن لا تنجم إلا عن اقتران غزارة المعارف بالحكمة, وهو اقتران لا يكاد عالمنا المعاصر يعرفه!
يأتي هذا الشهر الكريم وسط ظروف بالغة الأهمية تحيط بالمسلمين في جميع أنحاء العالم, وتزايد حملات الربط بين هذا الدين العظيم وبين الإرهاب, بوصفه دينًا يدعو إلى العنف والقتل, وقد أسهمت في هذه الصورة الحملات المغرضة التي يقف وراءها كثير من المتعصبين الذين يناصبون الإسلام العداء, ومن ناحية أخرى، انحراف القلة من المسلمين الذين تغالوا في الدين واحتكروا لأنفسهم التحدث باسمه, وانتهجوا أسلوب العنف والقتل أسلوبًا لتحقيق أغراضهم ومصالحهم الشخصية؛ ما انعكس في النهاية علي تشويه صورة هذا الدين العظيم, وأساءوا إلي الغالبية الكاسحة من أنصاره الذين يتسمون بالاعتدال والوسطية.
إن رسالة الإسلام تدعو إلى التسامح والتعايش بين الناس واحترام الآخر, واحترام مقدساته ومعتقداته, والإسلام دين يحث على التنوع والتعايش, انطلاقا من أن الاختلاف سنة والتعارف واجب, وقد ظل الإسلام طيلة 15 قرنا يحمل رسالة الحضارة إلى العالم ويسهم في دفع تقدم البشرية, من خلال التفاعل الخلاق بين الحضارات والمعارف والأخذ منها والإضافة إليها.
ورغم تلك الحملات المغرضة التي تحيط بالإسلام والمسلمين, فإن هذا لا يعفي تحمَّلنا جزءًا مما آل إليه هذا الحال؛ فلا شك أننا ظللنا لفترات طويلة نعيش أسر الاختلاف والتناحر لأمور ليست أصيلة في الدين, وغفلنا أن الإسلام هو دين العلم والعمل, وهو دين رفع من قدر العلماء, ودعا إلى اكتساب العلم وجعله فريضة يجب أن يسعى إليها المسلم في كل مكان في العالم, هو دين التحضر والرقي, وهو دين الارتقاء بالنفس وسموها بعيدًا عن الحقد والضغائن والكراهية.
وفي هذا الشهر الكريم, يجب أن نقف مع النفس لنؤكد رسالة الإسلام, لنعالج أخطاءنا وتقاعسنا عن الأخذ بأسباب العلم والحضارة, وأن ننبذ الكراهية, ونتكاتف جميعا لمواجهة التحديات المحيطة بالأمة العربية والإسلامية, وأن نظهر للعالم الوجه الحضاري لنا ونستعيد صورة الإسلام الحقيقية, وندرك أن العبادة هي الارتقاء بالنفس وتطهيرها من الكراهية, ونكرس قيم التفاني في العمل والسعي إلى تحقيق مصلحة المجتمع بكامله.. (يُتبع).