البلاك بيري .. الأمن قبل الرفاهية

مع تقدم التقنية وتعدد وسائلها، أصبح هناك تراجع في الحس الأمني، سواء على مستوى الدول أو الأفراد، بحيث أصبحت أكثر المعلومات حساسية يعهد بها أحيانا إلى من هم قليلي الخبرة، أو ممن لا يدركون خطورة ما يعهد إليهم به من مهمات. ومع تعاظم دور الشركات الكبرى المنتجة لوسائل التقنية، أو من تدير خدماتها وسيطرتها على أصحاب القرار في الدول المصنعة، تحولت تلك الدول إلى مروجة لسلع شركاتها، بل وضاغطة على الدول الأخرى لإزالة أي حواجز تحد من وصول منتجات تلك الشركات إلى أسواقها، حتى ولو كان ذلك على حساب أمنها القومي.
في الولايات المتحدة، نجد أن شاباً لا يتجاوز عمره الثانية والعشرين يعهد إليه بمهمة شديدة السرية، وبكبسة زر يسرب عشرات الآلاف من الوثائق التي تتناول عمل الجيش الأمريكي في أفغانستان، لتحدث أزمة داخل الإدارة الأمريكية، وتُقدم معلوماتٌ مجانية لدول كانت على استعداد لبذل مئات الملايين مقابل الحصول على بعض تلك الوثائق .
أما في بقية دول العالم، خاصة العالم الثالث، فقد أصبحت منتجات التقنية تفرض نفسها على الدول وأسواقها بقوة، ودون استئذان، وقبل أن تتمكن الدول من سن تشريعات واحترازات تحمي أمنها وقيم وأخلاق شعوبها. وإذا برزت مشكلة بسبب هذه الأجهزة، بدأت الدول ــــــ وعلى استحياء ــــــ في اتخاذ اجراءات لمواجهة هذه المخاطر بعد أن تكون أسواقها قد امتلأت بهذه المنتجات، وخسرت الدولة وشعبها الكثير من المال .
جهاز ''بلاك بيري'' أنموذج واضح على قدرة التقنية على فرض نفسها وتخطي ما تفرضه الدول من اشتراطات، حتى لو كانت مهمتها الحفاظ على الأمن . فهذا الجهاز الذي غزا العالم خلال عامين بشكل واسع، استطاع أن يكون بما يوفره من خدمات تستهوي فئات كثيرة من الناس، خاصة الشباب، في صدارة الأجهزة انتشارا، وأصبح تأثيره في سلوك الناس وتفاعلهم مع من حولهم شديد الوضوح، بل وأصبح مصدر قلق كبير للأسر التي ترى انعزال أبنائها رغم وجودهم بينهم، فلا ترى ولا تسمع لهم سوى الهمسات والضحكات، وأصابع تتحدث نيابة عن صاحبها عبر هذا الجهاز.
جهاز ''بلاك بيري'' دون غيره من الخدمات التي تتاح لعموم الناس، لا تتحكم به الدول ولا تعرف مسارات ما يصدر عنه، أو ما يستقبله، بل تفردت الشركة الكندية المنتجة له ''ريسيرتش إن موشن'' بمراقبة ما يصدر عن هذا الجهاز، ولم تُتح هذه الخاصية إلا للولايات المتحدة وبريطانيا،. وهذا الخلل الأمني دفع المفوضية الأوروبية أن تصدر قراراً بحظر استخدام أجهزة ''بلاك بيري'' على جميع موظفيها البالغ عددهم 32 ألف شخص.
وكانت المملكة ودولة الإمارات العربية المتحدة في مقدمة الدول العربية التي تنبهت لمخاطر هذا الجهاز وسعت إلى الوصول إلى حلول مع الشركة المنتجة لتفادي الثغرات الأمنية الناتجة عن استخدامه، إلا أن المفاوضات لم تصل إلى نتيجة حتى الآن، ولعل السبب في ذلك أن المفاوضات كانت تتم بشكل مستقل لكل دولة، وليس بشكل موحد من قبل دول مجلس التعاون الخليجي.
إن الأمن مقدم على أية قضية أخرى، خاصة إذا ما كانت تتعلق بخدمة يغلب عليها جانب الترفيه، ويمكن تعويضها بخدمة مشابهة. ولهذا كان من المفترض أن يخرج من يشرح أسباب اتخاذ قرار تعليق خدمة ''البلاك بيري''، ويوضح للناس أن هذا القرار ليس الهدف منه التوصل مع الشركة المنتجة إلى إجراءات تنظيمية فحسب، بل بسبب ثغرات أمنية يجب التصدي لها، فالناس تدرك أهمية الأمن، وعلى استعداد للتخلي عن هذا الجهاز إذا ما كان سيسبب خرقاً أمنيا يهدد المجتمع. الوضوح والصراحة والحزم في تطبيق القرار أمور مطلوبة في مثل هذه القضايا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي