المكسيك واليونان.. نذر الأزمة (3)
ترى كل شيء على ما يرام وفجأة تبدأ الكارثة وتنهار معها كل السدود التي أقامها الإنسان للحد من الفيضان حتى ليبدو لنا في أحيان كثيرة أننا بسبب تلك السدود قد تسببنا في الكارثة فعلا ولو أنا لم نتدخل وتركنا الطبيعة تسري كما خلقها الله لما تعرضنا للكارثة. والاقتصاد آلة طبيعية ضخمة غير مرئية خلقها الله لنا وفيها الكثير من العجلات ''التروس'' الضخمة هذا يسمى العمل وتلك الفائدة، وهذه العملة وهذا التضخم وهذه هي السلع والإنتاج وذلك يسمى الدخل وتلك التوزيع، وهناك الاستثمار والفقر والغنى والادخار وغيرها كثير جدا نحصي منها ونخطئ. يبذل علماء الاقتصاد جهودهم لنقل الصورة كاملة لنا من خلال معادلات وأرقام تعكس تعلق تلك العجلات بعضها بعضا، عندما تتحرك هذه العجلة بشكل بسيط جدا، حركة تقترب من الصفر، ماذا يحصل للعجلة التي معها وكيف تستجيب؟ لكن كل الجهود التي يبذلها علماء الاقتصاد لا تتعدى معرفة حركة عدد قليل جدا من تلك العجلات (نسميها الاستقراء الناقص)، ونفترض أن الحركة توقفت هنا. بينما تظل العجلات تدور في خفاء وبعيدا عن ملاحظاتنا حتى تنعكس – بعد فترة قد تطول لسنوات - بحركة ضخمة لتضرب أجزاء من كياننا البشري فجأة وبلا إعلان مسبق. في بعض الأحيان يتنبه البعض من علماء الاقتصاد للحركة الخفية لكن إقناع العالم بوجودها والأمور تسير على ما يرام أمر صعب، على أن تلك النذر تأتي دائما متأخرة.
في دروس التاريخ الكثير المثير مما يمكن للاقتصاد السعودي الاستفادة منه، ذلك أن ديننا الحنيف أمرنا بالتفكر فيما حل بالأمم والتنبه للأخطاء التي وقعوا فيها، قال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون). لقد رُبِطَ العقل في هذه الآية بالسير في الأرض والتفكر بما حصل للآخرين. في أزمتي المكسيك واليونان بدت الأمور لسنوات على خير ما يرام، وهذا عكس حالة من الرضا العام سمحت بالانفلات الاقتصادي فاختلت موازين الضبط المالي. كانت أكبر نذر انهيار الاقتصاد اليوناني في الفساد الذي استشرى وتقلص الحكمة والدراية في إدارة أموال الدولة، حتى وصلت إلى قمة الهرم الحكومي لتخفي الحكومة عجزها وتذهب تستجدي المؤسسات الاستشارية في كيفية التلاعب بميزانيتها وديونها. انتشر الفساد والتدليس وتقلصت الشفافية والإفصاح إلى حد بعيد وذلك على جميع المستويات وتستر الجميع برداء الازدهار الاقتصادي المزعوم. في زمن الازدهار أنفقت الحكومة اليونانية الكثير من أجل كسب الرضا الجماهيري عنها، بغض النظر عن العجز الذي ستتسبب فيه تلك الإنفاقات الضخمة حتى تفاقم الدين العام والذي مع تضخمه ارتفعت الفوائد عليه، وأصبح الأمر أكثر تعقيدا مع كل إصدار جديد للسندات التي تطلب دوما فائدة أعلى تتناسب مع المخاطر المتزايدة. في زمن الازدهار تتوسع الدول في المصروفات غير الرأسمالية بشكل لافت فيتم زيادة الرواتب والمعاشات – كما حصل في اليونان – وبطريقة لا تتناسب مع مستويات الإنتاج الفعلية للشعوب، ثم مع انخفاض الدخل القومي لم تستطع حكومة اليونان أن تمس هذا الخط الأحمر وهي التي تتنافس من أجل إرضاء الشعب لإعادة انتخابها فتفاقم عجز الميزانية ولم تجد تمويلا. لم يكن أمام اليونان فرصة لطباعة العملة لذلك لم تواجه أزمة انهيار العملة، لكن المكسيك واجهت مثل هذا الخطر الهائل الذي اضطرت معه لصرف احتياطياتها للدفاع عن عملتها. لذلك فإن العجز من أخطر الأمور التي تواجهها الدول غير الصناعية التي لا تستطيع طباعة الدولار كما هو معلوم، فإن هي ذهبت إلى البحث عن تمويل عن طريق الاقتراض الخارجي – كما فعلت اليونان - وقعت في فخ أسعار الفائدة المتصاعدة والتي لا يمكن للدولة التحكم فيها، وإن هي ذهبت لزيادة طباعة عملتها دون تطور حقيقي في قطاعها الإنتاجي فإنها تعرض عملتها للانهيار، وبذلك ترتفع أسعار السلع المستوردة داخل الدولة وترتفع الفوائد ويصبح الحصول على الدولار أمرا عظيما ودخول السلع أعظم منه وقد يبدأ الانفلات الأمني لشعوب تعودت الرفاه لسنوات ولا تقبل بنفاذ السلع من السوق بينما في أيدهم عمله.
دائما ما تواجه الدول غير الصناعية فخا خطيرا وهو تنامي الاحتياطيات من العملة الأجنبية في بنكها المركزي. الخطورة تكمن في أمرين: الأول هو مصدر تلك الاحتياطيات الضخمة، والثاني في الاستفادة منها. في أزمة المكسيك كان مصدر تلك الاحتياطيات هي الاستثمارات الأجنبية بشكل رئيس والنفط بشكل فرعي. كان الهدف من جذب الاستثمارات الأجنبية هو تنمية الصناعة المحلية لكنها لم تفعل ذلك بل توجهت إلى العقارات والأصول السائلة مثل الأسهم والسندات والشركات المساهمة. لذا ظهرت نذر الأزمة في المكسيك بالارتفاع غير المبرر في تلك الأصول ولما بدأت السماء تتلبد بالغيوم خرجت تلك الاستثمارات ببساطة وتركت العملة المحلية تعاني الأمرين ذلك أنها في تماسكها القوى زمن الازدهار لم تكن ترتكز على احتياطيات مصدرها الصناعة المحلية القوية والمستوطنة والمقبولة عالميا – كما هي الحال في الصين اليوم - بل مجرد خزانة من العملات يمكن الخروج منها في أية لحظة.
ومن نذر الأزمة كذلك المبالغة في الدفاع عن العملة وعدم تحريرها لأسباب تبدو غير جوهرية سوى وجهات نظر سياسية. بالغت المكسيك في دفاعها لتبدو السياسة الاقتصادية التي انتهجتها الحكومة لسنوات جيدة وفاعلة وهي التي تواجه انتخابات جديدة، لقد خافت الحكومة من التخلي عن سياستها المنتقدة أصلا فتقدم للمعارضة هدية مجانية لكن ذلك تسبب في انهيار الاقتصاد واندلاع المظاهرات وانهيار الحكومة، وفي النهاية فما سعت الحكومة المكسيكية لتجنبه في ذلك الحين هو ما وصلت إليه في آخر الأمر. يجب ترك العملة دائما لتعكس حالة الاقتصاد وليس الرغبة السياسية الحكومية. العملة عجلة اقتصادية - ''ترس'' - خطيرة يجب عدم التلاعب بها. يتوقع السياسيون أن تغيير السياسات الاقتصادية هو عمل ببساطة تغيير المواقف السياسية لكن بينما تتغير السياسة، فإن الاقتصاد قد ينهار بدلا من أن يتغير. إن تغيير سعر صرف العملة أو تحريرها في زمن الازدهار عمل مريح لكن إن حدث ذلك – كما حصل في المكسيك – في زمن الأزمة فهو إعلان لانهيارها.
إن تحمل الحكومات لمشكلة التوظيف وفي وظائف غير صناعية هو تجنب مؤقت لنذر الأزمة لكنه ليس حلا حقيقيا لها. إذا كان رجال الأعمال غير قادرين على خلق فرص العمل – أو غير راغبين في ذلك - من خلال الصناعة فيجب على الحكومات أخذ زمام المبادرة – كما حصل في الصين - وخلق شركات من ذلك النوع، وللمملكة تجارب رائعة في ذلك منها شركة الكهرباء وسابك وأرامكو مما يدل على أننا نستطيع ومن خلال صندوق الاستثمارات العامة خلق شركات منافسة وقوية يمكنها تحمل جزء كبير من قصة دعم العملة المحلية وتعزيز الأصول الأجنبية. إن نقص العمالة الوطنية من نذر الأزمة ذلك أن العمالة الأجنبية تشبه وإلى حد بعيد الأموال الأجنبية الحارة فهي تأخذ زهرة الاقتصاد المحلي وترسلها إلى الخارج ثم عندما تندلع الأزمات فإنها تضغط بشكل هائل على الاقتصاد والعملة المحلية بهروبها خارجا وتحويل ممتلكاتها المحلية إلى عملات أجنبية مختلفة وتتسبب بذلك في انهيار العملة والأسعار.
دائما ما كانت الحلول الاقتصادية بسيطة وواضحة لكنها تحتاج إلى تغليب الحنكة الاقتصادية على السياسية قليلا وتجاهل رغبة الشعوب في الإنفاق. يجب محاربة الفساد بكل أشكاله وتطوير نظم ضبط وإدارة الدولة لأموالها وتعزيز الشفافية والإفصاح ونقل المعرفة الاقتصادية للشعوب. يجب أن تتوجه الأموال الصافية في زمن الازدهار إلى تطوير الصناعة. لكنها ليست مجرد صناعة تنتج سلعا بل صناعة قادرة على أمرين: الأول وهو الأهم خلق فرص عمل مرضية للمواطنين (وليس العمالة الأجنبية) والثاني الحصول على حصة جيدة من السوق العالمية تضمن طلبا فعالا على العملة المحلية وتدفقا مستمرا من العملة الأجنبية. وأخيرا يجب أن تتناسب الرواتب مع الإنتاج. نعم للرفاه الاقتصادي ولكن نعم أيضا لرفع الطاقة الإنتاجية. تفاوت الرواتب بين القطاعين الخاص والعام مؤشر غير جيد على اختلاف مستويات الإنتاج ومعرفة الأدق في عكس الحالة الإنتاجية عمل ليس سهلا وتصحيح الأوضاع أمر يشتد صعوبة كلما مر الوقت.