«ساهر» في لندن

لو تأملنا في الأنظمة من حولنا لوجدنا أن أنجحها وأكثرها فاعلية هي تلك التي تسري على الجميع وبالدقة نفسها، فأحد أهم معايير نجاح أي نظام هو تطبيقه على جميع أفراد المجتمع صغيرهم وكبيرهم غنيهم وفقيرهم وبالمستوى والطريقة نفسيهما، ومن أمثلة ذلك في حياتنا اليومية الإشارة المرورية. إذ نجد أن الناس جميعاً يقفون أمامها، بغض النظر عن تلك الفئة التي تقوم بتجاوزها فهم يعرفون أنهم يعرضون أنفسهم وغيرهم لخطر كبير، وأنهم مخالفون، ويعرفون كذلك أنهم لو قاموا بالتجاوز فهم يقومون بذلك وهم موقنون بأنهم يلقون بأنفسهم للتهلكة، فالآخرون في الجهة المقابلة أصحاب الضوء الأخضر لهم حق العبور، ولا يختلف اثنان على تحميل قاطع الإشارة سبب أي حادث يقع، وهكذا هو الحال في كثير من الأنظمة التي أصبحت ثابتة بدقتها وصرامتها حتى باتت جزءاَ من ثقافة المجتمع.
في لندن وأمام متجر هارودز الشهير تناقلت المواقع الإلكترونية خضوع سيارات فارهة لعقوبة المرور بسبب وقوفها في مكان يحظر وقوف السيارات فيه، وعلى الرغم من أن طراز السيارة هو لامبرجيني وقيمتها لا تقل عن 350 ألف جنيه استرليني (أكثر من مليوني ريال)، والأخرى كوينيجسيج وهي واحدة من ست سيارات من طرازها في العالم وتبلغ قيمتها 1.2 مليون جنيه استرليني (نحو سبعة ملايين ريال سعودي)، وأخرى رولز رويس، إلاّ أن قيمة هذه السيارات، وقبل ذلك مكانة وثراء أصحابها الذين يعتقد أنهم الملاك الجدد لمتاجر هارودز التي تم شراؤها، أخيرا لم يسمح لهم باختراق النظام ووضع سياراتهم في مكان لا يسمح فيه بإيقاف السيارات.
وفي حادثة أخرى تم إيقاف أكاديمي سعودي في نيوزيلندا وتغريمه ألفي دولار ومنعه من قيادة أي سيارة لمدة ستة أشهر وهو طبيب، والسبب هو تجاوز السرعة إلى 130 إلى 140 كيلومترا في الساعة وتخطيه بعض السيارات الأخرى بطريقة خطرة، لم تقف مكانة الطبيب ولا شهادته ولا كونه سائحاً أو غريباً أمام القاضي النيوزيلندي الذي أصر على تطبيق العقوبة على الرغم من زعم الأكاديمي أنه لا يعرف شيئا عن الحد الأدنى والأعلى للسرعة.
السر في نجاح نظام ساهر في أي منطقة من مناطق المملكة هو في قدرته على أن يفرض المصداقية الخاصة فهي الأساس الذي سيفرض احترام الجميع له وانصياعهم لمتطلباته والتقيد به، وفي الوقت الذي سيلجأ فيه نظام ساهر للانحياز لفئة دون أخرى أو قبول الوساطات أو التساهل بذريعة المرونة أو غيرها من الأساليب المختلفة التي تسهم في ضعف مصداقية هذا الجهاز فهو بذلك ينعى نفسه بنفسه.
إننا نحتاج وبشدة في جميع شؤون حياتنا إلى تطبيق مفهوم المساواة والعدل والإنصاف وعدم خلق الأعذار والاستثناءات وغيرها من الحيل والمجاملات في معاملاتنا حتى تصبح حياتنا حياة جادة ذات قيم يحترمها الصغير والكبير ويشيد بها القريب والبعيد، ولم تنجح الأنظمة في مختلف دول العالم إلا من خلال هذا المفهوم.
إن مما أسهم في إفساد كثير من شؤون حياتنا هو عدم وجود الرقابة الداخلية لكل فرد على نفسه وعلى سلوكه، مما جعل ضعف هذه الرقابة يمتد ليسيء هذا الفرد من خلال تصرفاته تجاه الآخرين سواءً من خلال قيادته السيارة؛ التي هي أحد مظاهر ضعف الرقابة الفردية، أو من خلال مظاهر الفساد الأخرى المنتشرة، ومما زاد الأمر سوءاً عدم وجود العقوبة الرادعة لتلك التصرفات؛ فمن أمن العقوبة أساء الأدب. ولو علم كل مخالف أنه لا مفر من العقوبة فسيفكر ألف مرة قبل ارتكابه المخالفة.
نظام ساهر ليس إلا وسيلة من وسائل الرقابة التي قد يسعى كثيرون إلى إفشالها ولكن الأهم هو الإيمان بها، فإن آمن الإنسان بأهمية أن يراقب نفسه بنفسه فلن يحتاج إلى ''ساهر'' أو إلى غيره، ولن يحتاج المجتمع إلى مثل تلك الأنظمة بل سيكون هو الرقيب على نفسه بنفسه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي