ثقافة الكسل

تقول لي إحدى القريبات إن ابنتها سعاد صدمت وخاب أملها عند ذهابها إلى الولايات المتحدة للدراسة، عندما لم تجد الرفاهية التي تعودتها في المملكة، فقد كانت تتوقع أن تجد الرفاهية نفسها أو أكثر. وكيف لا، فهذه أمريكا! بعد يوم واحد من تسلمها الشقة في السكن الجامعي، فوجئت بأن عليها أن تغسل وتكوي ملابسها بنفسها، وتطبخ أكلها بنفسها، وتغسل الصحون بنفسها، وتنظف البيت بنفسها، وترتب غرفتها بنفسها، وتنتقل إلى كليتها باستخدام الحافلة، وتصلح الأعطال البسيطة بنفسها، مثلها مثل كل زميلاتها في السكن. أن تقوم بهذه الأعمال بنفسها، لم ولن تتخيل أن تقوم بها في حياتها أبدا، فهي من مجتمع آخر، مجتمع جبل على الكسل. فالبيت يعتمد على السائق الأجنبي والخادمة، سواء كانت المرأة عاملة أو لم تكن، والعمل يعتمد على العنصر الأجنبي بشكل أساسي، والشواهد كثيرة وقوية.
يفترض أن حياتنا، كمسلمين، عبادة في عبادة، سواء في عملنا أو مالنا أو في بيتنا أو مع أهلنا ''وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون''، حتى أوقات المرح عبادة. وأعمالنا في الدنيا يجب أن تكون متوازنة، ساعة وساعة، وكل ذلك يتم من خلال تطبيق أوامر الله في العمل والتجارة والأمانة وحفظ المال العام والمعاملات الدنيوية قبل الدينية، وبإخلاص وخوف من الله, ولله فقط. في رمضان (والصيف أيضاً)، يلجأ البعض إلى النوم في النهار ومن ثم الأكل بجنون عند الإفطار، ثم يكملون ليلتهم في السهر حتى الصباح، وأما التعبد والعمل والقراءة فشأن آخر لا يحظى ويعمل به إلا القلة المباركة. إذا أخذنا موسم الصيف في المملكة، مع رمضان ومع موسم الحج، وقلة ساعات العمل ولجوء البعض إلى تأجيل العمل والمعاملات إلى ما بعد الإجازات وإلى ما بعد رمضان، لوجدنا أن هناك أكثر من خمسة أشهر تضيع من إجمالي إنتاجية الأفراد في المملكة، وأما بقية الأشهر، فتختلف الإنتاجية بين العاملين في المملكة حسب الجنسية والجنس. فمعدل إنتاجية الفرد السعودي منخفض، مقارنة بمعدل إنتاجية الفرد غير السعودي في المملكة نفسها، بينما معدل إنتاجية الفرد العامل في القطاع الحكومي أقل بكثير من معدل إنتاجية الفرد في القطاع الخاص، أما معدل إنتاجية الفرد العامل في المملكة فيعد من أقل المعدلات عالمياً.
قلة، حتى أحياناً انعدام، الإنتاجية أصبحت ظاهرة متنامية في المجتمع السعودي، فكل بيت يعتمد على وجود خادمة وسائق أو أكثر للقيام بالأعباء اليومية داخل البيت، ما ينمي ثقافة الكسل في المجتمع. الطفل ينمو ويتربى وهو لا يعمل أبداً، فكل شيء موفر له أو لها، كما أنه لا يرى أمه أو أباه يعملان في البيت، فكيف له أن يعمل ويشعر بالاستقلالية والاعتماد الذاتي؟ وكيف لمثل هذا الجيل أن يتوقع منه أن يعمل وينتج ويسهم في إنتاجية المجتمع ككل بشكل مستقل ودون اعتماد كلي على العنصر الأجنبي؟ هذا الوضع في مجتمعنا يمثل رفاهية مطلقة وخطيرة، ولا يفترض أن يحصل عليه إلا الأغنياء جدا في الدول المتقدمة .. فماذا يحصل لنا ولأولادنا؟
عندما ننظر إلى أعداد السعوديين العاملين في القطاع الخاص أو العام، ومهما كانت نسبة السعوديين في هذه الجهات، سواء كانت 85 في المائة كما في بعض الجهات الحكومية أو بعض الشركات الحكومية (خلاف التوظيف من خلال التعاقد مع شركات) أو 3 في المائة كما في المصانع مثلاً، فإننا نجد أن العمل والإنتاجية يعتمدان على العنصر الأجنبي بشكل كبير في أغلبية هذه الجهات. يقول أحد المسؤولين في إحدى الجهات إنه على الرغم من أن نسبة السعودة لديهم تبلغ 85 في المائة، إلا أن العمل حقيقة يعتمد على النسبة المتبقية 15 في المائة، (غير السعوديين). بل إن زميلي يذكر حقيقة مرة أن العمل لن يتضرر، بل ربما يتحسن في حالة غياب أو تنحي بعض الموظفين السعوديين. لا غرابة في تنامي ظاهرة الكسل لدى أبنائنا وبناتنا، ولجوئهم إلى الغير للقيام بأعمالهم وواجباتهم بعيداً عن الأخلاق والأمانة والولاء للوطن وازدهاره. الموظف السعودي في الغالب ليس إلا طفل تربى على يد الخادمة، وتنقل مع السائق بين المدارس والأسواق، واعتمد على المدرس الخصوصي في أداء الواجبات والتجهيز والتحضير وتجاوز الاختبارات .. فماذا يتوقع من طفل كهذا؟ ماذا يتوقع من طفل في السادسة من عمره، يطلب منه المعلم القيام بالاستعانة بمكتب متخصص بإعداد لوحة فنية وكتابة اسمه عليها كمعد لها لوضعها في القاعة الدراسية؟ أسلوب تربوي ينمي ثقافة الكسل والاتكالية والكذب. هؤلاء الأطفال، وبعد الرفاهية والكسل والخمول، فجأة ودون مقدمات، نطلب منهم العمل والإنتاجية، مطلب غير واقعي وصعب المنال.
أما أم سعاد، ومثلها آخرون همهم وإخلاصهم للوطن ومستقبل الأجيال ورقيه على قمم الدول والأمم، فما زالت في حيرة من أمرها في كيفية إقناع ابنتها بأن الوضع المعيشي الذي وجدته في الولايات المتحدة هو الطبيعي وينبغي أن تتأقلم معه وتتعلم منه، وأما ما تعودته في المملكة، فهي ظاهرة مؤقتة اكتسبها المجتمع بطريقة خاطئة، فالثروة دائماً مؤقتة ولا يبقى إلا العقل والمهارات المكتسبة والعمل بجدية، فقد تكون الثروة أحياناً لعنة.
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي