ثلاثية البطالة والفقر والترف

لا بد من الحذر عند الحديث عن المشاكل التي نواجهها، فالمشاكل لا بد منها لأي مجتمع يريد أن يتطور وأن ينهض بنفسه، فالمشاكل هي للشعوب والمجتمعات الناهضة تحديات تستثير هممهم وتجعلهم أكثر عزما وتصميما لمواصلة المسير من أجل الوصول إلى الأهداف المرجوة، أما الشعوب المتخلفة والمترهلة فإنها تنظر حتى لمشاكلها الصغيرة على أنها أزمات مستعصية لا يمكن حلها أو تجاوزها، بل قد يصل بها الأمر إلى تقديس هذه المشاكل ومحاربة من يريد التصدي لها؛ لأنها ترى في حلها تبديدا للجهود وبعثرة للموارد، فهذه المشاكل إما ابتلاءات لا بد منها، وإما انعكاس لتآمر الأقوياء عليها، وبالتالي يكون الصبر عليها أجدى وهو مفتاح الفرج في التعامل معها. فمن المهم أن تكون لنا رؤية للمشاكل متحررة من الخوف منها وغير مقيدة بأوهام تآمر الآخرين علينا. فالمشاكل مهما كان مصدرها هي تحديات وعلى المجتمع ألا ينشغل في البحث عن مصدرها بقدر ما ينشغل بما هو أهم، وهو مواجهتها والتعامل معها.
فالمملكة اليوم تعيش مرحلة انتقالية ومن طبيعة هذه المرحلة أنها تزدحم بالمشاكل والتحديات، ولا خيار أمامنا إلا مواجهتها والتغلب عليها وأخذ العبر والدروس منها. فالمشاكل لا بد لنا من أن ننظر إليها على أنها أعراض لمرض أو أمراض قد نعانيها، وبالتالي علينا ألا ننشغل بالعرض وننسى المرض. فالمرض قد يطل علينا من خلال أعراض عدة، وقد يكون هناك مرض ولا تكون هناك أعراض، وقد يبقى هذا المرض يفتك بجسد المجتمع من دون أن يحس به المجتمع حتى ينهار ويموت، فمعرفة أصل المشكلة على درجة عالية من الأهمية. فنحن اليوم ونحن نتحرك ونجتهد لبناء مملكة المستقبل تواجهنا مشاكل عدة، كنا في السابق نستشكل في الإعلان عنها والاعتراف بها ظنا منا أن الاعتراف بها منقصة لنا وتشويه لصورتنا عند أنفسنا وعند الآخرين. أما اليوم فالمملكة وبقيادة خادم الحرمين الشريفين عندها من الجرأة والشجاعة لتعلن عن ما تواجهه من مشاكل وتحديات بكل وضوح وشفافية، حتى وإن كانت ثقتنا الجمعية والتحتية ما زالت مترددة وبطيئة في تقبلها لهذا النوع من الجرأة في التعامل مع المشاكل. فمشاكلنا كثيرة بقدر ما هي طموحاتنا كثيرة وكبيرة، لكن هناك ثلاث مشاكل تعبر في اجتماعها عن تحد كبير وعن الحاجة والضرورة للخروج بحلول إبداعية وعميقة لها، وهذه المشاكل هي البطالة والفقر والترف. فهناك بطالة وبالأخص عند الشباب لا يمكن أن ننكرها، وهي قد وصلت إلى مستويات عالية جدا بالنسبة إلينا، وفي الوقت نفسه نحن نستقدم الملايين من العمالة الأجنبية. والبطالة مؤشر لتداعيات خطيرة قد يواجهها المجتمع على أكثر من صعيد. وأما الفقر فهو من الصعب أن نصنفه على أنه مشكلة فقط، لأن الفقر عندما يتحول إلى ظاهرة يتحول من مشكلة إلى حالة منتجة للمشاكل. فتطور الفقر من مشكلة إلى ظاهرة هو بحد ذاته تعبير عن فشل في التعامل معها وهي في بداياتها ولا زالت طرقنا وكيفية تعاملنا مع الفقر تفتقد الإبداع والجدية في معالجتها. وأما الترف فهو المشكلة الثالثة التي تهدد مجتمعنا ونحن في الأغلب الأعم لا نحس بها ولا نلتفت إليها، فمظاهر الترف عندما تتواجد إلى جانب البطالة والفقر فإنها تخلق حالة متفجرة قد يصعب التحكم بها إذا ما تركت من دون معالجات جادة وسريعة لها. في النقاط التالية مناقشة مختصرة لبعض الأفكار والتصورات التي لها علاقة بهذا الثالوث من المشاكل:
1- هناك أسباب عدة، منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو اجتماعي وتنظيمي، أدت إلى حدوث البطالة بهذا الحجم، فالسبب الاقتصادي يتطلب منا إعادة هيكلة اقتصادنا وتغيير مساره، فاقتصادنا هو في الأساس اقتصاد استهلاكي وليس هو بالاقتصاد المنتج، وهكذا اقتصاد هو بطبيعته يكون غير قادر على أن ينتج بنفسه فرص عمل جديدة، صحيح أننا بدأنا بالالتفات إلى هذا الجانب، لكن هذا الأمر سيتطلب وقتا ليس بالقصير لإعادة الاقتصاد إلى مساره الصحيح والطبيعي. والبعدان الاجتماعي والتنظيمي في إعادة الهيكلة يتطلبان التعامل بجدية وحسم بخصوص موضوع السعودة، فمن غير المقبول وغير المنطقي كل هذا التردد وعدم الحسم في إصدار وتطبيق القوانين الخاصة بالسعودة، خصوصا أنه من المتوقع أن تستقبل المملكة خريجي برنامج خادم الحرمين الشريفين للبعثات. فخريجو هذا البرنامج هم ممن يمتلكون المعرفة والمهارت المطلوبة للانخراط فورا في سوق العمل، ومن حقهم على المجتمع أن يستعد لاستقبالهم واستيعابهم بأسرع وقت ممكن. تبقى هناك مسألة اجتماعية مهمة وهي قبول قطاع الأعمال بضرورة التعاون والمشاركة الجادة في حل مشكلة البطالة، فأغلب شركاتنا الوطنية لا ترى نفسها أنها ملزمة بإتاحة الفرصة للمواطن للعمل والتدريب عندها، وهذا يتطلب التفكير في وضع آليات مدروسة وجديدة لدفع قطاع الأعمال للاهتمام بهذا الشأن. وعلى المجتمع نفسه أن يعي مسألة مهمة جدا وهي أن له دورا وعليه مسؤولية لحل هذه المشكلة، وهي تحمل بعض تبعات حل مشكلة البطالة، فالمجتمع قد تعوّد على مستوى من الحياة يتواكب مع اقتصاد يشغل أو يشغله عمالة رخيصة وغير وطنية، فتشغيل العمالة الوطنية لها تبعات خاصة على الشركات، وقد تكون هناك حاجة إلى تمرير جزء من هذه التبعات والأعباء المالية إلى المجتمع، لكن العوائد الاجتماعية والاقتصادية العائدة من تخفيض البطالة ستكون أكبر وأعم على الجميع في المدى المتوسط والبعيد.
2- أما الفقر والذي هو موضوع نسبي ويتعلق بمستوى الحياة ومتطلباتها في كل بلد، لكن في إطار العيش بما يحفظ للإنسان كرامته، فهو مشكلة متعددة الأبعاد. فليس العاطل عن العمل هو الفقير فقط، بل هناك شريحة كبيرة من العاملين ممن هم أشد فقرا وأكثر حاجة من العاطلين؛ لأن إعالتهم أسرا كبيرة والوفاء بحاجاتهم مع رواتب أو دخول ضعيفة تجعل فقرهم أشد خطورة من فقر العاطل والذي لا يعيل إلا نفسه. لا تحل مشكلة الفقر فقط بالصدقات والإعانات، فنحن لا نريد أن نتحول إلى مجتمعات صدقة وبر وإحسان، فليس هذا نوع المجتمع الذي نحلم به لمملكة المستقبل، نريد أن نكون مجتمعا تكافلا، وأوضح صور التكافل هي في مساعدة الفقير على انتشال نفسه من الفقر، فنحن نجد أن الغني ورجل الأعمال يريد أن يتصدق ويقدم إعانات للفقراء، لكنه لا يريد أن يتعاون في تشغيل المواطنين أو يشارك في سعودة الوظائف التي عنده. إن رجال الأعمال ملزمون إنسانيا ووطنيا المشاركة في برامج تساعد العوائل الفقيرة على تحسين دخلها وتحويلها إلى عوائل منتجة، فالتدريب والتأهيل والمساعدة في تعليم الأبناء وتأمين الحاجات الأساسية، كلها يجب أن تكون في إطار برامج الرعاية الاجتماعية. وبرامج الرعاية الاجتماعية يجب أن يكون هدفها ليس فقط رعاية ومساعدة الفقراء المتدنية أحوالهم، الفقر المدقع، فعدم تقديم المساعدة للفقراء الآخرين؛ ما قد يؤدي إلى تدهور أحوالهم وليصبحوا فقراء حالهم حال الفقراء المدقعين هو حل للمشكلة من جانب والسماح لها بالتفاقم من جانب آخر، إن مثل هذه العوائل هم في حاجة إلى حماية وبرامج للارتقاء بهم من دائرة الفقر.
3- أما ثالثة المشاكل فهي الترف، ولعل الترف هو أعلى مرتبة من الإسراف، وقد يصل الحال بالمترف إلى حالة السفاهة؛ ما قد يتطلب الأمر من المجتمع لأن يتدخل إما بالتوعية وهي أضعف الايمان أو بالمزيد من التنظيم والتشريعات التي تحد من هذه الظاهرة، وهذا هو الموجود حتى في الدول المتقدمة والتي هي أغنى منا بكثير. فالترف أضراره كثيرة، فالفقير يعاني أكثر في المجتمعات المترفة؛ لأنه يجد صعوبة هو وعائلته في تقبل فقره مع وجود مظاهر ترف تستفزهم وتستثير عندهم الكراهية للآخرين والمجتمع عموما، فكيف يستطيع أن يأمن المجتمع من فقير أو شاب في عائلة فقيرة أو معدمة وهي لا تملك ما يسد حاجاتها الضرورية وهو يرى الحفلات الباذخة في مناسبات الزواج، أليس من الترف أن يدفع في زواج واحد أكثر من خمسين ألف ريال فقط للتصوير. بل إن مرض الترف قد يتسبب بإفقار ممن هم في الطبقة المتوسطة؛ لأن هؤلاء الناس المتوسطي الحال قد تستدرجهم مظاهر الترف للتشبه بغيرهم، وعندها يحملون أنفسهم نفقات أكثر من قدراتهم المالية ومن ثم تتسبب الديون والأعباء المالية المترتبة عليهم إلى وقوع العائلة في دائرة الفقر والشواهد في هذا المجال كثيرة. فالمجتمع ربما يحتاج إلى الضرب على يد المترف، أي منعه بطريقة ما، من خلال النظام لأن المترف قد يصل به الحال إلى أن يكون عنصرا فاسدا وفساده لا يختص به، بل قد يتأثر به المجتمع كله. فعندما نرى ما هو الحال في مناسبات الزواج من تبذير وكثرة ما يرمى من طعام قد يكفي لأطعام أضعاف المدعوين فإن هذا ليس فيه ضرر للمترف فقط وإنما هي مظهر من مظاهر الترف المضرة بالمجتمع.
أخيرا نحن فعلا في حاجة ليس إلى معالجة كل مشكلة بمفردها، وإنما الخروج بمنظومة حلول تعالج مشاكلنا الأساسية من خلال منظور واحد، فالفقر هو مشكلة لها علاقة بالبطالة وكلتا المشكلتين لهما تداخل وتشابك بحالة الإسراف والترف الذي قد نراه في مجتمعنا. فهذه الثلاثية في حاجة إلى استراتيجية وطنية؛ لأن بقاءها واستفحال أمرها تقويض لكل محاولاتنا للنهوض بأنفسنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي