التنين الصيني قادم ولكن..!!

الصينُ قادمةٌ، ترحيب حار بصعود قوة اقتصادية جديدة ستسحب البساط من تحت الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم، مُنذرةً بانتهاء عصر العم سام، فهل فعلاً هذا هو الحال؟. قراءة التاريخ الاقتصادي لكلتا القوتين تقول، ومن دون تردد: إن الحال خلاف ما يُروج له وإن كان دوام الحال من المُحال، إلا أن الأخذ بالأسباب المادية قد يطيل أمد الحال، خاصةً في ظل ديناميكية وفاعلية سياسية واقتصادية. شهدت الساحة الدولية العشرين سنة الأخيرة دخول قوة جديدة لها من الضخامة البشرية ووفرة الإمكانات الاقتصادية الكثير، حيث كان الآخر ينظر لها على أنها بلد يعج بالسكان فقط وليست بذات الفاعلية على الساحة السياسية الدولية. وكما يحلو للبعض تسميتها "قاطرة الاقتصاد العالمي"، فبعيد وفاة ماوتسي تونغ عملت الإصلاحات الاقتصادية الضرورية عام 1978 التي ساعدت الصين كثيراً في سرعة اندماجها في الاقتصاد العالمي واستطاعت خلال نصف قرن من الزمان أن تحتل مرتبة متقدمة عالمياً، وهذا بحد ذاته يُعتبر إنجازاً يُحسب للصين لم تحققه أمة من قبل. بنظرة فاحصة لبعض المُعطيات ندرك معها دور الصين المحوري وتأثيرها على الاقتصادي العالمي، فقد نما اقتصادها بمعدل سنوي متواضع بلغ 2,3 في المائة عام 2008، مقارنة بـ16,2 في المائة لعام 2007، أما وارداتها فقد بلغت 52,7 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي الصيني لعام 2008، وبلغت صادراتها 37 في المائة تقريباً من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، حيث بلغ فائض ميزان المدفوعات 426 مليار دولار لعام 2008، وهذا ما دفع الغرب والولايات المتحدة للضغط عليها ونجحوا في إقناعها بتحرير سعر صرف اليوان تدريجياً ليعكس متانة وقوة الاقتصاد الصيني على الساحة الدولية. يمكن النظر للعلاقة الأمريكية الصينية التجارية من زاويتين، الصين من البلدان المنتجة للعالم اجمع والتي يشكل الناتج الوطني الإجمالي فيها 4.4 ترليون دولار بالأسعار الجارية لعام 2008، أي أعلى بقليل من 25 في المائة من الناتج المحلي الأمريكي، وليست بعيدة من حجم الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا. فالصين تشتري أذونات الخزانة الأمريكية وبذا فهي تمول العجز التجاري الأمريكي ولو لم يكن الحال كذلك لتأثرت أسعار الفائدة الأمريكية، ما ينعكس سلباً على الاقتصاد الأمريكي برُمته بما فيها قطاع الإسكان وصعوبة تمويل استثمارات الشركات الأمريكية. أما الجانب الآخر، فهو الغزو الصيني للأسواق الأمريكية والأوروبية، بل العالمية بالسلع ذات التكاليف المنخفضة، ما دفع الإدارات الأوروبية والأمريكية إلى محاولة تقييد التجارة معها بطريقة غير مباشرة من خلال التأثير على سعر صرف اليوان، وعلى هذا فإن الولايات المتحدة لا تعتبر الصين دولة تعمل على تقييد سعر صرفها لأن هذا الأمر يعتبر مخالفة صريحة لقواعد التجارة العالمية الحرة، وبذلك يتطلب فرض عقوبات اقتصادية على الصين من جانب الولايات المتحدة، وهذا ما لم تفعله وتسعى إليه الإدارة الأمريكية. الولايات المتحدة بالذات تملك أوراقاً كثيرة تؤثر بها على الصين وتجعلها أكثر ليونة في كثير من الملفات الدولية الساخنة الاقتصادية منها والسياسية، الأولى السوق الأمريكية الكبيرة والتي تتسع لكل البضائع العالمية، فهي السوق الأكبر في العالم وبالتالي لا تستطيع الصين بأي حال من الأحوال تجاهل هذه الحقيقة، إضافة إلى أنها الجنة الآمنة للاستثمارات الصينية، خاصة الفوائض المالية الكبيرة التي لا يتسع لها الاقتصاد الصيني ولا حتى الاقتصادات الأخرى المتقدمة منها والنامية. الثانية منها تتعلق بجزيرة تايوان (فرموزة سابقاً)، فمن المعلوم ان هذه الجزيرة تتمتع بحكم ديمقراطي انتخابي وتعتبر من البلدان المتقدمة تكنولوجياً في آسيا، وباعتقادي أن الصين بأمس الحاجة إلى ضم هذه الجزيرة وبالذات لإمكاناتها التكنولوجية الهائلة، ولو تمت الوحدة مع الصين الأم لأصبحت الصين قوة اقتصادية مهيمنة من خلال مزاوجة التكنولوجيا التايوانية مع الإمكانات الاقتصادية والبشرية الصينية، وهو مالا يُحبذه الغرب في الوقت الحالي. الشاهد في هذا المقام، أن الغرب يعمل على تعزيز الديمقراطية في هذه الجزيرة، بل حتى تسليحها بالأسلحة المتطورة ولن يكون هناك تمازج بينهما ما دام هناك حُكمان أحدهما ديمقراطي انتخابي والآخر خلاف ذلك. بيد أن هناك بعض الحقائق والتي لا يمكن تجاوزها أو حتى تجاهلها، الصين قوة اقتصادية كبيرة وواعدة إنما إلباسها ثوب الفاعلية الاقتصادية على الساحة الدولية هو أكبر من حجمها وقد يتنافى مع الواقع، فالواقع الاقتصادي الدولي لا يكتفي فقط بالإنتاج إنما بالتفاعل مع المجتمع الدولي من خلال المشاركة الجادة على الساحتين السياسية والاقتصادية. الأمر يتطلب وجود قوة اقتصادية مدعومة بقوة عسكرية من أجل المحافظة على سلامة الاقتصاد الدولي وتطورة، وهذا في حقيقته لا تستطيع الصين القيام به بشكل منفرد. ما تنتجه الصين من سلع قد لا تكون بذات الضرورة كالتي تنتجها ألمانيا، فرنسا، والولايات المتحدة على سبيل المثال وبإمكان المجتمعات الاستهلاكية تجاوزها ولهذا فالصين تعي جيداً حاجتها للأسواق الأمريكية والأوروبية، ناهيك عن الاستثمارات الغربية والأمريكية الضخمة في التكنولوجيا وتقنية المعلومات فيها. نعم وبكل تقدير نُجل التجربة الصينية الناجحة وندعو الجميع للنظر فيها والعمل على تكييفها مع الظروف السياسية والاجتماعية لكل بلد، إنما المبالغة في تعظيم الدور الصيني وفاعليته على الساحة الاقتصادية العالمية ليحل محل الولايات المتحدة فهذا لا يستقيم مع العقل ويتنافى مع الحقائق العلمية السليمة.

المزيد من الرأي