الغابة التي كادت تضيع فيها أحلام مهند

لا, لن أضيف جديدا إلى قصة الشاب مهند, وبالتأكيد مهند ليس في حاجة إلى كلمات تشجيع, وليس في حاجة إلى مواقف تتعاطف معه, فنحن الذين في حاجة إليه وإلى كلماته, فهو وإن أغمض عينيه وفقد بصره, لكن بصيرته باقية, وهي أشد نورا وإشراقا مما سبق. نحن الذين في حاجة إليه لأننا لا نملك ما يملكه من عمق نفسي داخلي منفتح به على الله - سبحانه وتعالى - ليستمد منه هذه القوة الجبارة, التي يجد مهند نفسه صعوبة في اختيار الكلمات التي تستطيع أن تحمل ولو جزءا بسيطا من صورها ومعانيها. كم نحن في حاجة إليك يا مهند وأنت تقول لنا بكل إيمان وثقة إن الابتلاء هو اختبار وليس فشلا وانكسارا. ابتلاؤك وإن كان عظيما جدا إلا أنه كشف لنا عن مهند آخر أكثر قوة وأكثر بأسا وأكثر إيمانا وأكثر تحديا من مهند السابق. كم أنت عظيم وأنت تقول لنا ما معناه إني وإن لم أعد أراكم ولا أرى دنياكم, وصرتم أنتم والدنيا في عيني ظلاما, إلا أني صرت أنظر ببصيرتي إلى عالم آخر في داخلي, إنه عالم أكبر وأعمق من دنياكم, إني الآن أرى الأمور في صورة أقرب إلى حقيقتها, أرى ما عند الإنسان من القوة مما قد لا ترونه أنتم بأبصاركم. وجدت أن ما كنت أراه ببصري أقل حجما وعظمة بكثير مما أراه اليوم ببصيرتي, فكم كنت مشغولا بكم عن نفسي, كانت تبهرني صوركم وألوانكم, وربما كانت تلك الصور والألوان ترفعكم أو تحط بكم منزلة عندي, وأما اليوم فإني أراكم بلون واحد, وهو لون إنسانيتكم. وكم يعجبني اليوم ما أراه في هذا الكون المتناهي الأبعاد, الذي تحويه نفسي في داخلها, فالسفر في داخل النفس فيه متعة ليس أقل من متعة السفر في الفضاء, فالنفس تنطوي على عوالم تفوق في عظمتها عوالم الكون الخارجية, فهناك شموس وهناك نجوم وهناك مجرات تنبعث منها طاقة لو التفت إليها الإنسان لعلم كم هو مخلوق عظيم. نعم إن في اختراعك الغواصة رسالة تعبر فيها عن حبك للسفر في الأعماق.
كان بودي أن أقف معك مع كل كلمة قلتها في حديثك الشائق في برنامج ''إضاءات'', لكن هل تتسع هذه السطور القليلة لكل ما أضأته من معان وسطرته من كلمات؟ لكنك أجبرتني على أن أقف مع آخر كلمة أطلقتها, وآخر دفقة من نور نشرتها علينا في حديثك وهي كلمة ''الغابة'', إنك أردت أن تشير إلى خطورة أن تنزلق بنا الثقافة فنصبح مجتمع غابة بدل أن نكون مجتمعا متحضرا, ونحن نستحق أن نكون كذلك. نعم, الثقافة هي الخط الفاصل بين أن نعيش بعقلية الغابة وأن نعيش في بيئة اجتماعية متحضرة. الرافعة الثقافية هي التي بمقدورها أن تنتشل المجتمع وأن تضعه في مسار الحضارة, فالتنمية الاقتصادية والنهضة العمرانية وحدهما ومن غير ثقافة قد ترتفعان بالمجتمع, لكن سرعان ما تسقطان به, لأن الثقافة بقيمها ومعانيها وأخلاقها وقناعاتها هي التي تؤمن الدعامات المستقرة لاستمرار مثل هذا النهوض. في النقاط التالية شرح موجز لبعض أوجه الثقافة التي نستوحيها من حديث مهند وتجربته:
1- كل مجتمع يملك كما من الثروات منها المادية ومنها المعنوية ومنها العقلية والفكرية, وعلى المجتمع كي ينهض بنفسه ويتطور أن يحول هذه الثروات إلى مشاريع استثمارية ليوظف ما يحققه من عوائدها لإحداث تنمية مستدامة وشاملة. وكلما تطور الإنسان ازدادت قيمة ما عنده من ثروات معنوية وفكرية, فحضارة اليوم ومعالم حضارة المستقبل تؤكدان هذه الحقيقة, ففائض القيمة في كل ما ينتجه الإنسان اليوم يميل لمصلحة الفكرة وليس المادة. بل بات بحكم المؤكد عند المهتمين بالشأن الحضاري أن الثروات المختزنة في العقول والنفوس لهي أثقل وزنا وأكثر قيمة من الثروات المادية المختزنة في الأرض, فالحفر في العقول والاستثمار في النفوس هما اللذان سيكونان الصناعة والتنمية في المستقبل. مهند هو أحد هذه المشاريع الفكرية والنفسية التي علينا أن نستثمرها وأن نحرص على ألا تضيع منا, فهو أولا مشروع نفسي, الاستثمار فيه ناجح بكل المقاييس. عندنا الملايين من المعوقين في حاجة إلى مهند ليغيروا من نظرتهم إلى أنفسهم, ليفهموا من مهند أن الإعاقة تعني وجود شيء يعوقك ويعترض طريقك, لكنها لا تعني أبدا عدم القدرة على تجاوز هذا الشيء الذي يعترض الطريق. الإعاقة في نظر المجتمع وعند كثير من المعوقين تعني العجز, وتعني الفشل, وتعني الحاجة إلى الغير, لكن الإعاقة عند مهند تعني التحدي وتعني العقبة التي لا يستسلم لها بقدر ما تثير عنده الرغبة والحماسة لكسرها وتجاوزها, قالها مهند لمن سأله عن شعوره وهو معوق, انتظروا لتروا بأنفسكم ماذا سأفعل بهذه الإعاقة, إني إنسان كنت أتغدى على التحديات وها أنذا الآن وقد حظيت بوجبة دسمة من التحديات وأنا مستعد لها وقادر عليها. ونحن في حاجة إلى مهند المشروع النفسي لنستنهض به شبابنا, فنحن مجتمع أكثر من نصفه شباب ونستطيع بهم أن ننافس أكثر دول العالم تقدما, لكن بشرط أن نستنسخ في نفوسهم ما عند مهند من إيمان بالحياة وما عنده من ثقة بالنفس وإصرار على التحدي وما يمتلكه من وضوح في الرؤية وعشق للعمل والإنجاز. إننا في حاجة إلى مهند وأمثال مهند لندور به على شبابنا في مدارسهم وجامعاتهم ليتعلموا منه كيف تستعاد ثقتهم بأنفسهم, وليتعلموا منه كيف أن الإصرار على التحدي يجعل من الإنسان قادرا على أن يهزم المستحيل. فإذا كان أديسون قد استطاع أن يهزم ألف مستحيل حتى يكتشف لنا المصباح الكهربائي فإن مهند هو الآخر استطاع أن يهزم المئات من المستحيلات ليطور بنفسه فكرة غواصة قادرة على أن تذهب بعيدا في أعماق البحار, وهو الآن أكثر استعدادا وأكثر تقبلا ليواجه ويهزم ليس المئات بل الآلاف من المستحيلات. إن أكثر ما هو مبتلى به شبابنا اليوم هو انعدام الرؤية وضعف الثقة بالنفس, وتجربة مهند خير مشروع وطني ينتفع به شبابنا في هذا المجال.
أما مهند المشروع الفكري والعقلي, فإننا في أمس الحاجة إليه لنؤسس منظومة تعليمية منتجة للعلم والمعرفة نبني عليها قوائم مملكة المستقبل. فهذا الإنسان المهموم بالاختراعات نريد أن نجعل منه نموذجا يتكرر بآلاف في مدارسنا. مهند يحلم بتحقيق مشروعه الذي سماه الميمات الأربعة, مليون مسلم مخترع محترف, فلنجعل جزءا من هذا المشروع المليوني المهندي أن يتحقق عندنا, في مدارسنا وفي جامعاتنا وعند شبابنا. كم هو رائع وجميل لو أننا دفعنا بمدارسنا وجامعاتنا لتتسابق فيما بينها لتنتج لنا العشرات أو مئات من مهند سنويا, ومن ثم نمهد لهم السبل لتحويل مخترعاتهم إلى منتجات كتب عليها صنع في المملكة العربية السعودية. علينا أن نعلم أن السباق بين الأمم اليوم سباق فكري ولا مكان لأمة لا تسابق بفكرها وبعلمائها, فأمريكا على عظمتها وتفوقها العلمي إلا أنها تسعى وتعمل بكل جهد لترفع من عدد براءات الاختراع المسجلة عندها من ثلاثة آلاف اختراع أو ابتكار أسبوعيا إلى ستة آلاف, ولنا أن نتصور كم من مهند نحن في حاجة إليه لندخل في مثل هذا السباق.
2- نحن في حاجة إلى مهند المشروع التوعوي, فنحن كدنا نخسر مهندا لأننا - مع الأسف - نسوق سياراتنا وكأننا في غابة وليس في مدن حديثة. لا ندري كم من مثل مهند فقدناه من بين الـ 30 ألف إنسان هم عدد ضحايا الحوادث المرورية في المملكة في السنوات الخمس الماضية؟ إننا في حاجة إلى مهند لنعي كلنا حجم الكارثة التي تتسبب فيها ثقافة الغابة التي نحملها ونحن نسوق سياراتنا. فإذا كان كل ما يتمناه مهند من تعويض هو ألا يكون هناك مهند آخر يفقد عينيه أو تقطع رجله أو يخسر عمره, فإن من حق مهند علينا كمجتمع أن نجعل من تجربته مشروعا وطنيا للتوعية المرورية. فلتكن أمنية مهند أمنيتنا جميعا ولنتخلص من هذه الممارسات الخاطئة التي نراها في شوارعنا وطرقنا.
أخيرا أستميحك عذرا يا مهند على اختياري هذا العنوان, فأحلامك لم ولن تضيع وإن بعثرها لك الحادث لكنك سرعان ما جمعتها وأضفت إليها أحلاما جديدة أحلى وأكبر من سابقاتها, فهنيئا لك بهذا الإيمان القوي بالله وهنيئا لك ثقتك بنفسك وبجرأتك على تحدي الصعاب التي أحاطت بك, وهنيئا لنا بك معلما ومرشدا ومخترعا ومثقفا, وكما قال تركي في ختام حديثه معك في برنامجه ''إضاءات'', نحن في حاجة إلى نتعلم منك ومن تجربتك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي