لنسمع ما يقوله المعمرون

الموت هو اليقين الذي لا خلاف عليه, إنكم ميتون, كل نفس ذائقة الموت, إن الله قهر عباده بالموت والفناء, ولهذا فالإنسان لا يقول بل لا يجرؤ أن يقول إنه لا يريد الموت أو إنه سيهزم الموت, لكن عند الإنسان رغبة قوية لا تقل قوتها وعنفوانها عن رغباته وميوله الفطرية الأخرى, وهي رغبة العيش والبقاء في هذه الحياة لأطول فترة ممكنة. وهذه الرغبة هي التي تدفع بالإنسان ليجرب ويبحث عما قد يجده نافعا ومجديا لإطالة عمره. وهذه الرغبة في الحياة لاحقتها الأساطير منذ قديم الزمان إلى وقتنا الحاضر, فأبونا آدم اتهم بأن رغبته في الخلود والحياة الدائمة هي التي دفعته إلى أكل التفاحة, وهي من شجرة الخلود والوقوع في معصية الله ـ سبحانه وتعالى ـ وما تبع ذلك من خروج وحرمان من الجنة والنزول إلى الأرض. وأما الفراعنة فكان ذكر الموت واقتراب الأجل ينغص عليهم ملكهم واستمتاعهم بما عندهم من متع ولذات ورفاه دنيوي, فكانت السنون المعدودة حتى ولو طال العمر بهم إلى 100 سنة لا تكفي لأن تشبعهم منها ولهذا أرادوا بالتحنيط أن يتركوا لأنفسهم بصيص أمل لعلهم يعودون من جديد إلى هذه الحياة ولو بعد حين. واليوم هناك شركات مسجلة تجاريا, خصوصا في أمريكا, تدفع لها مبالغ كبيرة لتحفظ الأجساد بعد موتها لعل تطور العلوم وتقدمها في المستقبل يجعل من الممكن أن تعاد الحياة إلى هذه الأجساد الميتة, لكن ـ وكما قال ذلك الرجل السبعيني وهو يسمع عن هذه الشركات ـ إننا وإن عدنا إلى هذه الحياة, وهذا مستحيل, هل هناك من سيقبل بنا حتى من أهلنا وأحفادنا؟ ثم قال: إن الموت حق وابتلع ابتسامة أرادت أن تخرج وسكت.
الرغبة في الحياة ليست مذمومة وإن كان التعلق بالدنيا والاستغراق في ملذاتها إلى حد نسيان الإنسان إنسانيته ووظيفته في هذه الحياة هو الأمر المستنكر والمنافي للأخلاق, فالإنسان بيولوجيا وحسب تقدير العلماء والباحثين يستطيع أن يعيش لمئات من السنين, وبالتالي فإن العلم يعدنا بفتوحات علمية في المستقبل تمكن الإنسان من إبعاد الشيخوخة عنه والعيش بأعمار أطول مما نألفه في الوقت الحاضر. فقد يأتي يوم لا يتقاعد فيه الإنسان عن العمل إلا بعد الـ 100 من عمره, فهناك اليوم دول وتحت تأثير الأزمات الاقتصادية تريد أن تزيد سن التقاعد بخمس سنوات وربما في المستقبل نزيدها بعشر سنوات وهكذا حتى نصل إلى الـ 100, وهذا ليس بالأمر البعيد. لكن ما يخيف الإنسان المعمر هو صحته وقدرته على أن يعيش هذه الحياة بمعنى الحياة وليس الحياة بالمرض والألم والمعاناة والعجز والحرمان من اللذات, وإن كان هناك من يريد الحياة حتى بنصفها أو ربعها أو عشر عشرها, لكن هؤلاء في الحقيقة يريدون هذه الحياة لا لنفسها وإنما خوفا من الموت, "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم", فالحياة مطلوبة, لكن بالصحة والعافية, وهذا ما يجتهد العلم على تحقيقه في الوقت الحاضر.
الإنسان المعمر هو من يعيش 100 سنة وما فوق, وحسب التقديرات العالمية فإن عدد المعمرين في العالم في الوقت الحاضر يصل إلى نصف مليون إنسان, خمسهم أو ما يقارب 100 ألف معمر منهم يعيشون في أمريكا. ويتوقع الخبراء أنه بحلول 2050 أي بعد أربعة عقود من الزمن سيتضاعف عدد المعمرين في العالم ليصل إلى أكثر من مليون معمر, بل إن بعض التقديرات تذهب إلى أبعد من ذلك وتقدر العدد المتوقع للمعمرين بأكثر من ثلاثة ملايين معمر. أن يعيش الإنسان 100 سنة أو أكثر هو بحق إنجاز كبير ولا بد أن يكون وراءه أسرار ولا بد أن يكون للإنسان نفسه دور في تحقيق هذا الإنجاز, خصوصا ونحن نعيش في عصر تحول فيه مرضا السكري وضغط الدم إلى وباء بات لا يفلت منهما الإنسان حتى وهو في شبابه. فالعلماء لا ينكرون أن للوراثة دورا في إطالة عمر الإنسان, لكن هذا التفاوت في الاستعداد الوراثي للعمر الطويل قد يستثمره الإنسان وقد لا يستثمره, وبالتالي فللإنسان دور يفوق أو يكافئ دور الوراثة, وعليه يكون المهم هو الحديث عما يجب أن يقوم به الإنسان لنفسه ليعيش أطول وبصحة أفضل. إن تتبع مسيرة المعمرين وحياتهم باعتبارهم من الناجحين فيه كثير مما يعتقد العلماء أنه يفيدنا في هذا المجال. فالمعمرون هم تجربة حية فيها من الدروس ما تكشف عن سر بقائهم إلى هذا العمر وهم في صحة تجعلهم يستمتعون بحياتهم ربما أكثر من كثير منا.
لنسمع ما يقول بعض هؤلاء المعمرين عن بعض الأسرار التي يعتقدون أنها السبب وراء بقائهم أحياء وبصحة جيدة وبأعمار أطول من غيرهم. لا نجد فيما يقوله هؤلاء المعمرون من معجزات أو متطلبات ثقيلة من الصعب تحقيقها, بل هي أمور عادية, وربما لشدة بساطتها وسهولتها قد لا نصدق أنها السبب, لكن بحق أمور من النوع السهل الممتنع, فلنسمع ما يقولونه:
1- البطن: يكاد يكون هناك إجماع بين المعمرين على أن الإنسان كلما زاد كرشه نقص عمره, فكمية الطعام ونوعه لهما دور كبير في إطالة عمر الإنسان. فأولا إنهم لا يأكلون إلا القليل وينتقون من الطعام ما هو أقرب إلى الطبيعة من غير نكهات ولا إضافات غير طبيعية, ويكثرون من شرب الماء ولا يقربون المشروبات الغازية وغيرها. هؤلاء المعمرون يطبقون قاعدة ذهبية يعجز كثير عن تطبيقها وهي أن جسم الإنسان لا يحتاج من الطعام إلا القليل جدا, وأما الزائد من هذا الطعام الذي نلتهمه يوميا على موائدنا العامرة فيتحول إما إلى كتل شحمية ولحمية تثقل علينا ونتعب بحملها, وإما تتحول إلى سموم تضعف من مناعتنا وتتعب أعضاءنا, ونكون محظوظين إذا تخلصنا منها وطردتها أجسامنا إلى الخارج, "صوموا تصحوا".
2 - العقل: المخ سيد هذا الجسد, وإذا لم ننشط هذا المخ بالتعلم والتفكير والتأمل فإنه يتعب ويترهل, وبتعبه يتعب كل أعضاء أجسامنا. لا يعيش الإنسان عمرا مديدا وعقله خامل وغير نشيط, وإن عمر هذا الإنسان إلا أنه حتما سيعيش إما بلا عقل وإما بربع عقل. فمن يريد أن يعمر عليه أن يجتهد في تنشيط عقله, لكن هل سينشط العقل في أمة لا تقرأ إلا اقل من عشر ورقات في السنة الواحدة؟ المخ عضلة عصبية, وهي كباقي العضلات تنشط وتقوى بالتفكير.
3 ـ الرياضة: ليست الرياضة فقط من أجل الرشاقة لأن الحركة والنشاط يعطيان لأجسامنا حيوية تجعلها قادرة على تجديد نفسها وتقوية مناعتها ضد الأمراض. وحسب ما يقوله أغلبية المعمرين إنه ليس هناك أفضل من المداومة على المشي, هم لا يمشون فقط بل إنهم يصنعون الفرص ليمشوا أكثر, فواحد من المعمرين يقول إنه يتعمد إيقاف سيارته بعيدا عن السوق ليمشي أكثر, وآخر يقول إنه وهو في المائة من عمره حريص على المشي يوميا.
4 ـ العبادة: لن تعمر وتعيش طويلا بجسم سليم وروح سقيمة وعليلة والروح نشاطها وسلامتها بالتأمل والعبادة. فإذا كان المرض اضطرابا واختلالا في نفس الموجود, وكان القلق شكلا من أشكال الاضطراب فإن العبادة والتأمل ينتجان الاطمئنان للإنسان, والإنسان المطمئن لديه فرصة أكبر لأن يعيش أطول, فأكثر من 60 في المائة من المعمرين يقولون إن صلاتهم ونشاطهم الروحي كان له دور كبير في صحتهم وطول أعمارهم.
5 ـ الابتهاج والاحتفاء بالحياة: كيف لمن يريد أن يعيش في الحياة طويلا وهو غير مبتهج ولا يحتفي بها. عندما تتحول الحياة إلى سلسلة من الضغوط النفسية ولا يعرف الإنسان كيف يواجهها أو يديرها فإنه في النهاية سينسحق تحت عجلاتها. المعمرون هم أكثر الناس دراية بكيفية إدارة مشكلاتهم النفسية والاجتماعية, فالحياة ستعطي من نفسها لمن يبتهج بها وتشيح بوجهها عن المكتئب والمهموم الذي لا يعرف كيف يتخلص من همومه.
وآخر ما يقوله المعمرون وربما النساء منهم ضرورة عدم الخوف من الشيخوخة, لأن عدم الوصول إلى الشيخوخة تعني الموت, فقد يذهب الجمال وقد تذهب الوسامة وقد نفقد كثيرا من قدرتنا على عمل أشياء كثيرة كنا نعملها في شبابنا, لكن الإنسان كون في حد ذاته ولا يضره ولا ينقص منه إذا انطفأ نجم أو حتى إذا اندثرت فيه مجموعة شمسية بكبرها فسيبقى هو الإنسان إذا ما أراد ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي