سرقة الأراضي

ما قولكم لو أن شخصا تسلل إلى الصندوق في إحدى الجهات الحكومية واستولى على ألف ريال, هل من شك في أن فعله جريمة تستوجب العقاب؛ لأنه اعتدى على المال العام، وأن ذلك أشد جرما ممن يسرق آحاد الناس؟ هذا أمر مجمع عليه؛ أما من يعتدي على الأراضي الحكومية فأقصى عقابه هو إزالة الاعتداء, إن لم يسبق هو للحصول على حجة استحكام ويفرض سياسة الأمر الواقع. هل سمعتم أن حكما بالسجن صدر في حق شخص بتهمة سرقة أرض؟ مع الأخذ في الحسبان أن صور الاستيلاء على الأراضي متنوعة الأحجام والوسائل؛ منها ما يكون بعشرات الأمتار ومنها ما يكون بالآلاف، ومنها ما يكون بحريا ومنها ما يكون بريا؛ فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وأرجو أن يسلم الجو من التملك؛ فنحن في حاجة إلى الهواء!!
في إطار هذا الواقع يقول رئيس لجنة مراقبة الأراضي وإزالة التعديات في جدة، في تصريح لجريدة «الوطن» يوم الخميس الماضي: «إن اللجنة تمكنت من استعادة ما يزيد على 220 مليون متر مربع من الأراضي المعتدى عليها بغير وجه حق خلال أقل من ثلاث سنوات». الرقم كبير من حيث المساحة والقيمة، ويمكن القياس عليه في كل مناطق المملكة، ومهما كانت جهود هذه اللجان وصلاحياتها؛ فإن معالجتها لن تكون طويلة الأمد؛ طالما وجد الخلل في تملك الأراضي ماضيا وحاضرا ومستقبلا. سئل أحد أمناء المدن السابقين في لقاء صحافي عن حصوله على أراض قيمتها بالملايين لمصلحة بناته؛ فأكد صحة ذلك وقال»هؤلاء بناتي وأنا مسؤول عنهن». نسي الصحافي أن يسأله عما إذا كان قد رعى ـ معاليه - مصالح المواطنين أيضا بهذه المسؤولية. لا يبرر مثل هذا التصرف أي شكل من أشكال الاعتداء على الأراضي؛ لكن مثل هذا الواقع يضعف ويحرج أي جهد لمواجهة الاعتداء على الأراضي؛ لأن المبدأ واحد وإن اختلفت الأساليب.
سبق لمجلس الشورى أن ناقش الأمر قبل ستة أشهر، ونشر ملخصا لتقرير لجنة المياه والمرافق والخدمات العامة في المجلس، ولقد تلمس التقرير جوانب مهمة في الموضوع. الملف شائك وحساس ويمس مصالح الكثير، لكن لا بد من التنظيم القانوني؛ فترحيل المشكلة والمعالجات المؤقتة والمتباينة لن تجدي. لجان التعديات قادرة على مواجهة «الأحواش والبيوت الشعبية»، لكن كيف تتم مواجهة من استولوا على المساحات الشاسعة ثم يبيعونها للمواطنين بمئات الآلاف؟
لقد نشأت سوق سوداء لتداول هذه العقارات، من طرائفها أن الأوراق العرفية التي تسمى مبايعة تتضمن فقرة مضمونها أن البائع يضمن للمشتري عدم التعرض له من الأشخاص دون الحكومة! وآخرون يسعون إلى إثبات أن الإحياء كان قبل (1387هـ) ليستخرجوا حجج استحكام من خلال بناء غرف طينية أو غرس النخيل. سوق متكاملة العناصر؛ بسبب غياب نظام معلوم للكافة يبين قواعد منح الأراضي وضوابطه، والمخالفات وعقوباتها؛ فلن يردع الناس التعاميم والاجتهادات المتباينة.
الأبعاد الاقتصادية لها أهلها من المختصين، أما البعد القانوني، ففي نظري، أنه مختل من جهة تنظيم الحق في التملك، ومن جهة حظر هذه الاعتداءات أو السرقات تجريما وعقابا. لا يتسع المقال لكل التفاصيل؛ إلا أن تنظيم الحق في التملك من الناحية الموضوعية لا يزال متناثرا في أوامر وتعليمات، ولم يتم تقنين المسألة في نظام. كما أن مواجهة التجاوزات ما زالت علاجية مؤقتة، ولا تتم في إطار المواجهة القانونية، باعتبار أن التعديات استيلاء على المال العام يستوجب العقاب الجنائي.
من الله علينا بوطن شاسع مترامي الأطراف؛ إلا أن أسعار العقارات, خاصة الأراضي في تزايد مستمر، ولم يعد تملك الأراضي مشكلة المواطن فحسب؛ وإنما تعدت إلى الأجهزة الحكومية. قرأت قبل أسبوعين تقريبا إعلانا من وزارة الصحة عن رغبتها في شراء أراض لتخصيصها لمراكز الرعاية الصحية، ووزارة التربية والتعليم تعاني المشكلة ذاتها, وبعض الجهات الحكومية ما زالت في أماكن مستأجرة؛ لأنها لا تملك أراضي مناسبة للبناء عليها، ومشاريع تتعطل أو تزيد تكلفتها بسبب الاعتداء على الأراضي.
الأراضي الحكومية ثروة وطنية يجب عدم التفريط فيها بأي حال، كيف تجمع مئات الأشخاص في أمتار معدودة بينما تجمعت ملايين الأمتار في أيدي أشخاص معدودين؟ ربما يحقق المصالح قانون يقوم على مبادئ منها: عفا الله عما سلف، وأن أراضي الدولة مال عام مجرم ومعاقب الاعتداء عليها، وأن تطويرها لمصلحة المواطن تحت إشراف الدولة بآليات جديدة ومبتكرة. لعلنا بهذا النظام نستدرك ما فات، ونحمي ما تبقى من أراض رحمة بالأجيال القادمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي