حوار مع 4 جامعيين عاطلين عن العمل

بينما أنا وأحد الأصدقاء نمشي في أحد ممرات المشاة المحدودة في مدينة الرياض في منتصف الليل ومع حرارة الصيف الحارقة، يوم الأحد من الأسبوع الماضي، لفت نظرنا منظر أربعة من الشباب السعودي، جالسين على قارعة طريق المشاة، ودون سابق إنذار أو استئذان أو مناسبة، بادر أحدهم بسؤالنا بصوت يائس، وبشيء من السخرية: عندكم وظيفة؟ وبقدر ما استغربنا السؤال بواقع الحال والمكان والزمان، إلا أننا حزنا وغضبنا لواقع الحال لهؤلاء الشباب وغيرهم من مئات الآلاف (أو الملايين) من أبنائنا وبناتنا الباحثين عن فرص عمل حقيقية في سوق عمل سعودية صرفة. ولثوان معدودة، بدت كأنها أبدية، وقفنا وقفة تأمل وتساؤل وتعجب، ودخلنا في حوار مفتوح وصريح وهزلي (شر البلية ما يضحك) مع هؤلاء الشباب لينقلوا لنا معاناتهم اليومية وقرب نفاد صبرهم وزملائهم على مدى أكثر من ثلاث سنوات دون عمل، فبين إحباط ومكوث في البيت وقلق نفسي وعصبي واستغلال المؤسسات والشركات الأجنبية والمحلية واستخدام أسمائهم وبطاقاتهم المدنية للحصول على دعم مالي من صندوق الموارد البشرية وغيرها، إلى احتمالات اليأس والتهور واللجوء للعمل في مجالات لا أخلاقية، يعلمون أنها تهدد مستقبلهم وتضر أهلهم ومجتمعهم، لكنهم يرون غيرهم ممن عاش تجربتهم يعيشها ويشجعهم على الدخول معهم فيها، ولم لا وهي تضمن لهم دخلاً ثابتا.
ومع أولاد الوطن ومستقبله عبد الله ومسفر وخلف ومحمد، دار الحوار التالي:
بداية سألنا المجموعة: هل بحثتم فعلاً عن عمل في القطاع الخاص بدلاً من الانتظار للحصول على وظيفة حكومية؟ وهل حاولتم الدخول معاً في أي مشروع تجاري داخل، مثلاً، سوق الخضار أو غيرها؟
يقول عبد الله متحدثاً بالنيابة عن زملائه، ويبدو أنه قائد الفريق بالفطرة، فهو متحدث لبق وفصيح ومنظم الأفكار وذكي ولميح، ثلاثة منا خريجو كلية المعلمين، والرابع (محمد) ما زال في الكلية، ويعمل بطريقة أو أخرى على تأجيل تخرجه خوفاً من تعرضه للمصير نفسه الذي نواجهه حالياً. بالنسبة لي، حصلت قبل ثلاث سنوات على وظيفة في مدرسة خاصة بمرتب 2800 تقريباً، تحصل المدرسة مقابل توظيفي على 50 في المائة من راتبي من صندوق تنمية الموارد البشرية، وبعد أسبوع من عملي لدى المدرسة، ودون أي مقدمات، تم الاستغناء عني بحجة عدم الحاجة العملية إلي, وبحكم أني ما زلت تحت التجربة، وهناك عدد كاف من المعلمين، تركت المدرسة، وبالتأكيد أتوقع أن المدرسة استمرت في الحصول على 1400 ريال شهرياً من صندوق تنمية الموارد البشرية. ولأنني ما زلت متحمساً وفي مقتبل العمر، وبتعاون الوالدين ودعمهما وحثهما على ممارسة العمل ولو بمرتب منخفض على الأقل في البداية حتى الحصول على وظيفة أفضل، اتجهت إلى مدرسة خاصة أخرى، لعل وعسى، وعرضوا علي العمل مقابل 800 ريال شهرياً لمدة فصل دراسي، وبعدها يتم التقييم وربما زيادة الراتب إلى 2500 ريال، عرض أصابني بالصدمة والدوخة والغثيان، كيف يحدث هذا في وطني وبين أهلي، نحن تعلمنا وحصلنا على شهادات عليا، نقرأ ونكتب، جادين في حياتنا، لا ندخن، لا نسافر، محافظين على الصلوات، نملك حسن الخلق، وما هي مكافأتنا؟ لا عمل، لا وظيفة، لا راتب.
وهنا يتدخل مسفر بحماس، ويستغرب كيف يصبح الشباب السعودي عاطلاً عن العمل بهذه الأعداد الكبيرة، وهناك أكثر من 13 مليون عامل أجنبي؟ أسألكم بالله، أنتم دكاترة ويمكن تعرفون، يقول مسفر بسخرية، هل يوجد بلد في العالم يوجد فيه عاطلون عن العمل، ويستقدم عمالة من الخارج؟ أبغى أعرف بس هل هناك أحد عاقل يوظف عيال الناس ويترك عياله؟
وهنا يتدخل زميلي، وبتردد شديد وعلى استحياء وخجل، وهو يعرف الإجابة مسبقاً، لماذا لا تحاولون العمل في المجال التجاري أو في سوق الخضار أو في نقل المواد الغذائية وتوزيعها؟
ويجيب عبد الله عن السؤال، بجواب تهكمي، قائلاً ، أنت تعرف أن محال التجزئة وسوق الخضار وتوزيع المواد الغذائية تقع تحت سيطرة العمالة الأجنبية ولا يسمحوا لنا أو أي شاب سعودي آخر بالدخول في هذه الأسواق، هذه حقيقة الكل يعلمها، ولا نستطيع بشكل منفرد عمل أي شيء حيالها، فلا جدوى من المحاولة. ويضيف عبد الله، وبكل ذكاء، أن هناك أسواق عمل مختلفة، فهناك سوق العمل للعمالة الهندية، وسوق عمل للعمالة البنجالية، وسوق عمل للعمالة اللبنانية، وسوق عمل للعمالة اليمنية، وسوق عمل للعمالة الفلسطينية، وسوق عمل للعمالة الباكستانية والأفغانية وغيرها، لكل واحدة منها حد معين للأجور وشروط للعمل، من أهمها ألا تكون سعودية. وبالمناسبة، لا توجد سوق عمل للعمالة السعودية. فهل من المعقول والمقبول في المجتمع السعودي، أن يعمل الشاب السعودي مقابل 800 ريال شهرياً ولأكثر من 14 ساعة في اليوم ويعيش مع أكثر من 30 عاملاً من مختلف الجنسيات في شقة واحدة.
لو كنا ننافس الإخوة من العمالة البنجالية في بنجلادش، يقول خلف متدخلاً، لكان ما يحصل حالياً مقبولاً، لكن أن ننافس هذه العمالة في المملكة وباستخدام معايير الدخل ومستوى المعيشة السائدة في بنجلادش، فهذا منتهى التناقض والمستحيل. يا أخي هناك زملاء لنا (تورطوا) بالزواج وهم دون عمل، وبعضهم ترك زوجته بسبب عدم قدرته على توفير دخل للعائلة. أما نحن وكثير ممن هم على شاكلتنا ويعيش ظروفنا فإننا لا نفكر أبداً في الزواج بسبب البطالة.
وبعد سرد مزيد من الأحداث التوظيفية المؤلمة لعدد من زملائهم، سألتهم: ماذا تنوون أن تعملوا لحل مشكلتكم، وهل هناك أي خطط للتواصل مع المسؤولين عن التوظيف لنقل معاناتكم ومعاناة زملائكم؟ وهل...
ويقاطع عبد الله حديثي، قائلاً، لو يحضر هنا أكبر مسؤول ويقول، «خلاص حلينا مشكلة البطالة ووفرناكم لكم وظائف برواتب تتناسب ومؤهلاتكم، لما صدقنا أبداً»، وسنقول له « قديمة، دور غيرها».
هناك مئات الآلاف (أو الملايين) مثل عبد الله ومسفر وخلف ومحمد، عاطلون عن العمل، يبحثون عن فرص عمل حقيقية دون جدوى، ومثل عبد الله هناك أيضاً براء التي تخرجت في الجامعة قبل خمس سنوات ولم تحصل على عمل، لتتابع دراستها لمرحلة الماجستير، لكنها أيضاً لم تحصل على وظيفة، وما زالت في بيت أهلها دون وظيفة أو زواج، وكم من براء في مجتمعنا، وكم من براء في الرياض وجدة والدمام وحائل والقصيم وأبها وغيرها من مدننا وقرانا الحبيبة، وكم من براء في بيوتنا، وكم وكم.
يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»، وهنا نسأل لو كان عبد الله ومسفر وخلف ومحمد وبراء أبناء أو أحفاد مسؤولي الوزارات والهيئات هل يتركونهم دون وظيفة أو دخل ثابت؟ وإذ نحن نعلم علم اليقين أن أياً من هؤلاء لا يمكن أن يقبل بتعرض أحد من أحفاده أو أولاده بسوء أو نقص في دخله أو عدم حصوله على أحسن فرص التعلم والعمل، فكيف يقبل هؤلاء؟ وكيف يقبل المسؤولون في الجهات الرقابية والإشرافية مثل مجلس الشورى ووزارة المالية وديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق وغيرها بهذا الوضع، دون دراسة وتحقيق ومساءلة؟ الدولة لم تقصر معهم، فقد دعمتهم وسخرت لهم الإمكانات المادية والبشرية لتحقيق رفاهية الوطن والمواطن، فمن حقها أن تسأل وتحاسب، كما نملك الحق في مساءلتهم عما يقومون بعمله في وظائفهم القيادية والمؤثرة في اقتصاد الوطن وسوق العمل، وعن الأمانة التي حملوا بها، ونملك أيضاً الحق في محاسبتهم في تقصيرهم وعدم تحقيق رغبات ومصالح الوطن، ولنا الحق أيضاً في مساءلتهم عما يحدث في سوق العمل من تجاوزات، ويكفي أن معدل البطالة يزيد، وأعداد العمالة المستقدمة تزيد عاماً بعد عام، والمستفيد الوحيد هم التجار ومن خلفهم، وكما يقال:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
أما رجال الأعمال وتهديدهم بين فترة وأخرى بنقل أعمالهم إلى خارج المملكة، فليذهبوا غير مأسوف عليهم، فلن يجدوا بيئة تجارية وصناعية أفضل من المملكة تمنحهم مزايا تجارية وغيرها ولا تطلب منهم شيئاً، فلا ضرائب، ولا توظيف حقيقي للعمالة السعودية، ولا قيمة مضافة عالية وتنافسية لبضائعهم، بل يحصلون أيضاً على قروض ميسرة، فهم وهم فقط المستفيدون، فماذا يستفيد الوطن والمواطنون منهم؟
ومن اللافت للنظر تصريح لنائب وزير العمل السعودي خلال الاجتماع التحضيري هذا الشهر لقمة مجموعة العشرين المقرر انعقادها في كندا، الذي أشار فيه إلى أن السعودية قامت بدورها في توظيف أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية في السعودية، بينما لا يتحدث النائب عن عجز وزارته في توظيف أبناء البلد وبناته.
وبقدر ما أشكر عبد الله ومسفر وخلف ومحمد وبراء على صراحتهم وروحهم المرحة, وأقدر موقفهم وحقهم الشرعي في الحصول على فرص عمل لتحسين دخلهم وبناء أسرهم المستقبلية، إلا أنني لا أملك إلا أن أعتذر لهم، وآمل من خلال هذا المقام والمقال، أن تصل صرختهم ونداء ورجاء الملايين من زملائهم وزميلاتهم أبناء هذا الوطن وبناته إلى القيادة. بدراسة مشكلة البطالة بشكل جاد ومن خلال فريق عمل مستقل ووطني، على أن يتم اتخاذ ما يلزم لعلاج المشكلة لإنقاذ أولادنا ووطننا من خطر البطالة.
وللحديث بقية..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي