المفكرون الجدد
لا يكون الإنسان مجتهدا ونحن نلزمه بالوصول إلى ما وصلنا إليه سابقا من نتائج, صحيح أن الاجتهاد لا بد أن يتم في مناخ يتسم بالموضوعية والحيادية والأمانة العلمية والأخلاقية, ومن خلال اتباع الطرق العلمية, لكن الأخذ بكل هذه الأمور لا يعني أبدا الوصول إلى النتائج نفسها.
العالم يتغير بسرعة, ولما كان التغيير في جوهره حركة, انتقالا, انعتاقا, هدما وبناء, وحذفا وإضافة, فإنه في حاجة إلى طاقة, ولا توجد عند الإنسان طاقة أعظم من طاقة الأفكار, فالأمم والشعوب تتغير بقدر ما عندها من إبداع وتجدد فكري, أما الأمم التي تقفل على عقولها وتستنكر على من يدعو فيها إلى الإبداع وتحجر على من يقول بغير ما يقوله الآخرون, فإنها ستبقى مكانها, وقد يجد العالم نفسه مضطرا إلى تهميشها وإخراجها حتى من دائرة الفعل والاهتمام العالمي احتقارا لها أو اتقاء لضررها. وقد تتوهم هذه الأمم أنها تتحرك كما تتحرك بقية شعوب العالم, فاجترار الأفكار القديمة وطحنها من جديد فعلا حركة, لكنها حركة تعود بصاحبها في كل مرة إلى نقطة البداية. الإبداع والانغماس في البحث عن الأفكار الجديدة عالم مختلف, فهذا المهموم بالتغيير ينظر دائما إلى الأمام ووجهته على الدوام هي المستقبل على خلاف من ينظر إلى نفسه بدونية ويرى الإبداع طريق فتنة قد يأخذ بالإنسان إلى الضلال, وأن الاتباع هو الأسلم والأخف جهدا والأقل ضررا أيضا.
ومن عادة الرافضين للتغيير أن ينالوا من دعاة التغيير في شخوصهم, فيجد المصلح أو الداعي إلى فكرة جديدة أو منهج جديد أنه مشغول بالدفاع عن نفسه أكثر من انشغاله بتوضيح فكرته, فكيف لمتهم بالضلالة أن تتاح له الفرصة لأن يشرح فكرته وتوضيح مقصده؟ وكيف لمن يوصم بالعلمانية أو الليبرالية أن يسمع له رأي يجدد من فهمنا كثيرا من الأمور الراكدة أو الجامدة في وعينا؟ الداعي إلى التغيير إنسان مجتهد, ولا يكون هذا الإنسان مجتهدا ونحن نلزمه بالوصول إلى ما وصلنا إليه سابقا من نتائج. صحيح أن الاجتهاد لا بد أن يتم في مناخ يتسم بالموضوعية والحيادية والأمانة العلمية والأخلاقية, ومن خلال اتباع الطرق العلمية, لكن الأخذ بكل هذه الأمور لا يعني أبدا الوصول إلى النتائج نفسها. التغيير لا يتم عند أمة أو مجتمع ودعاة التغيير لا تتاح لهم حرية الاجتهاد ولا تحفظ كرامتهم ولا تؤمن لهم حقوقهم. بل المطلوب ألا تكون هناك ثقافة أو خطاب يتوعد دعاة التغيير حتى بالعقاب الأخروي. لا نستطيع أن نؤسس بيئة صالحة للتغيير ونحن لا نعطي الضمانات الكافية لحفظ حقوق المجتهدين عندنا ما دام اجتهادهم يصب في مصلحة تطوير فهمنا لواقعنا ومعتقداتنا وقناعاتنا, فالتهديد بالعقوبة الأخروية لكل مجتهد يدفع بالمجتمع إلى أن يصم آذانه عن سماع قول هذا المبدع أو الداعي إلى التغيير, وقد يتحول هذا المبدع إلى مبتدع, ومن ثم من مبتدع إلى فاسق أو متآمر على المجتمع, وهنا يبرز من يريد بتعجيل العقوبة لهذا الفاسق في الدنيا قبل الآخرة, وهذا هو بداية الانزلاق بالمجتمع في دائرة العنف. كيف بمثل هذا المجتمع أن يطلب التغيير وهناك في المجتمع ثقب أسود يبتلع المبدعين بأفكارهم وتطلعاتهم؟ فالتهديد بالعقاب الأخروي لكل من يدعو إلى رؤية أو فكرة جديدة مثله مثل التهديد بالعقوبة الدنيوية وإلحاق الضرر الجسدي, فليس من حق أحد أن يهدد أحدا بعقوبات مهما كان شكلها أو زمانها لأن الأساس هو البحث ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل ومن ثم استنطاق الواقع بما يحويه هذا الواقع من عوامل وظروف تحيط بالمسألة عندما يصل الحوار النظري إلى طريق مسدود.
الإشارة إلى مسألة استنطاق الواقع في عملية الحوار يجرنا إلى ذكر عقبة أخرى ومهمة في طريق التغيير وهي وجود ثقافة ترفض الواقعية في التفكير, لكن من لا يعيش الواقع على حقيقته ولا يحس بحاجاته ولا يتعرف إلى مشكلاته وأزماته, وربما لا يحس حتى بوجوده أصلا, لا يجد ضرورة للتغيير, فالذي ينشد التغيير هدفه تغيير الواقع وتطويره إلى الأحسن, فهو في كل مرة يرمي بفكرة جديدة أو ينتج رؤية إبداعية غير مألوفة ينتظر ليرى ما تحدثه من أثر في الواقع, على خلاف من لا يعيش الواقع, فهو وإن خرج بفكرة جديدة أو اجتهاد مغاير, تراه يتمسك بهذه الفكرة في داخله لأنه مسكون بهذا الداخل ولا يعيش الواقع. الرافضون للتغيير مهووسون باستقرار الواقع والمحافظة عليه كما توارثوه ليسلموه لاحقا كما تسلموه أول مرة شكلا ومضمونا لمن يأتي بعدهم. إذا لم نغير من ثقافتنا وعلاقتها بالواقع ستنتهي كل محاولات التغيير كسابقاتها إلى الفشل والنسيان. فما أكثر التجارب التي مرت بها مجتمعاتنا الإسلامية للنهوض بواقع الأمة وتغيير مسيرتها, لكنها في كل مرة كانت تنتهي إلى الفشل وتبقى الأمور على ما هي عليه من دون تغيير ملموس, لأن مشكلتنا أننا نريد أن ننهض على ثقافة هي ليست على وئام أصلا مع فكرة التجديد. الثقافة أولا يجب أن تتغير لأنها روح المجتمع وبتغيرها يستطيع المجتمع أن يمارس التغيير في الواقع.
وربما يصل الأمر بالرافضين للتغيير إلى التلاعب بمصطلحات التغيير نفسها ليوهموا الناس بأنهم هم أيضا دعاة للتغيير, ومن العدل والإنصاف أن يقال إن التلاعب بالمصطلحات لا يخص الرافضين للتغيير, فحتى المتحمسون له صاروا يقولبون المصطلحات خدمة لأغراضهم. عندما نسمع مصطلحات مثل الفوضى الخلاقة والتدمير الخلاق, التي تريد أن تقول إن على العالم أن يقبل بشكل من أشكال الفوضى والتدمير لأن هناك عوائق كبيرة لا بد من إزالتها لإعادة تشكيل العالم بالصورة التي يجب أن تكون. الرافضون للتغيير يؤكدون المرة تلو الأخرىأنهم مع التغيير ما دام هذا التغيير لا يمس الثوابت, ومن ثم يعمدون إلى توسيع دائرة هذه الثوابت, وعندها لا يبقى للتغيير مكان يقف عليه أو مساحة يتحرك فيها. وهذا الإصرار على رفع راية حماية الثوابت في وجه كل محاولة تجديد وإصلاح القصد منه إفهام الناس أن دعاة التغيير ما هم في الحقيقة إلا دعاة تغريب يريدون بمحاولاتهم هذه الوصول إلى الثوابت لاقتلاعها وإحلال ثوابت أخرى محلها, فربط كل تغيير بالمساس بالثوابت تخويف من التغيير نفسه, وهذا ما يريدونه في قرارة أنفسهم. التغيير ليس بالضرورة أن يكون حذفا لقديم أو إحلالا لشيء جديد, بل قد يكون التغيير قراءة جديدة أو فهما جديدا, وهذا لا يضر حتى بالثوابت نفسها, فالفهم الجديد لثابت معين, الذي هو ربما نتيجة لتطور فهم الإنسان يساعد كثيرا على بقاء هذا الثابت حيا في وعي معتنقيه ويزيده رسوخا في نفوسهم. الاحتماء بالثوابت لا يعني بالضرورة حرصا عليها بقدر ما هو خوف من التغيير نفسه. ومرة أخرى نرى الرافضين للتغيير يقولون إنهم مع التغيير الهادئ غير المتسرع, هم يعلمون أن سرعة التغيير مسألة نسبية وترتبط بموضوعها, وليس هناك من دعاة التغير من يريد أن يأخذ المجتمع إلى قفزات تدخل المجتمع في اضطرابات وهزات اجتماعية, لكن ما يريدونه في الحقيقة حركة تغييرية أشبه ما يكون بالسكون. نعم هناك أنواع من الحركة ما هي في الحقيقة إلا شكل من أشكال السكون, لأنها ببطئها تسمح للأفكار بأن تتكلس أكثر, وللقناعات أن تزداد رسوخا في نفوس معتنقيها. رفض التغيير بحجة عدم الرغبة في الانخراط بتغيير المجتمع بشكل متسرع إيهام للناس بأن التغيير يأتي في أغلبية صوره متسرعا, وأن دعاة التغيير هم في العادة أناس تعوزهم الحكمة وتنقصهم الخبرة بمجتمعهم.
ولعل أخطر صورة يطل بها علينا الرافضون للتغيير هي صورة المفكر الجديد الذي ليس عنده شيء جديد إلا خطاب بشكل جديد وبأسلوب جديد يريد به تكريس ما هو قائم وقديم. هناك اليوم كثير من المفكرين الذين يدعون أنهم أصحاب مشروع لتغيير المجتمع إلى الأحسن, وتجدهم يقدمون للناس خطابا مشحونا بالعواطف والصيحات الداعية إلى التغيير, لكن عند الفحص تجده خطابا ماضويا يهتم بتسطيح الأفكار وإقحام الناس في أمور ومسائل تستهلك طاقتهم فيما لا يفيدهم بل ربما يزيدهم بفكره تراجعا على ما هم عليه أصلا من تخلف. هؤلاء يقدمون أنفسهم على أنهم اصحاب فكر جديد, لكنهم في الواقع يريدون تكريس الواقع القديم بلباس جديد, فهم يجيدون توظيف المناهج الحديثة ويبرعون في استعارة واستخدام الألفاظ والعبارات التي توحي بعصرية خطابهم, لكن ما يريدونه منا هو القبول بالواقع على ما هو عليه من تخلف وتمزق, بل يصل بهم الأمر إلى التخويف والتهديد الدنيوي والأخروي بأن التمرد على هذا الواقع والبحث عما يجدده وتطويره إلى الأحسن, مخاطرة بما يملكه المجتمع الآن على قلته.
وأخيرا ثمة سؤال مهم جدا ومن المفترض الاشتغال عليه فكريا وثقافيا وهو: هل نحن فعلا نشتغل على تجديد وتغيير أنفسنا حتى يتغير واقعنا, أم أن الأمر معكوس في مجتمعاتنا الإسلامية؟ فما يفعله كثير من المفكرين من خلال إشغالنا بقضايا هي أبعد من أن تكون حتى جانبية أو هامشية في حياتنا, يريدون فعلا أن يميتوا حتى الإحساس والشعور بالحاجة إلى التغيير في داخلنا, وعندما يتحقق لهم ذلك فإننا سنتحرك, لكنها حركة غير منتجة, لأنها حركة تطحن وتفتت وتنثر في الهواء ما بقي عندنا من قوى إبداع وتجديد وانطلاق.