الغش التجاري والنظرة الواحدة
يسعى مجلس الغرف التجارية الصناعية, بجهد ملحوظ من أمينه العام, إلى لعب دور فاعل في معالجة جميع القضايا الاقتصادية في المملكة، وذلك فيما تلاحظه أوساط المجتمع من وجود متزايد لاسم المجلس في عديد من المحافل والمناسبات، فيما أعده مبادرة جيدة للإيمان الذاتي بأهمية دور المجلس في هذا الإطار، خاصة أنه يمثل جميع قطاعات الاقتصاد في المملكة، بكل رجالاته وتجاره وشركاته وكياناته. وأتطلع إلى أن يكون هذا الحراك علامة لمزيد من المبادرات لترسيخ هذا الدور في مسيرة التنمية الوطنية. أحد هذه المحافل التي تبناها المجلس كان ملتقى الغش التجاري وحماية الملكية الفكرية الذي نظمه المجلس قبل أكثر من أسبوعين مضيا، وحضرته لا تاجرا ولا كاتبا ولا ناقدا ولا إعلاميا ولا متخصصا، بل مواطن عادي تبادر إلى ذهنه أن يسمع ما يتداوله المتداولون حول هذا الموضوع، عله يجد ما يشفي غليله ويسوق بعض الاطمئنان إلى قلبه عما يسمع ويرى من غش تجاري وفكري أصبح بكمه خطرا يتهدد حياة الناس فوق جيوبهم. وعلى الرغم مما شهدته في ذلك الملتقى من طرح جريء وشفاف يحسب باقتدار لأمين المجلس، إلا أنني خرجت أيضا بعدد من الانطباعات أعرضها هنا بالقدر ذاته من الشفافية، عسى أن تجد لدى أمين المجلس ما آمله من اهتمام.
تحدث المتحدثون في الملتقى عن عدد من المحاور، ركز مجملها على حجم الظاهرة ومخاطرها على المستهلك والاقتصاد الوطني بشكل عام. لكن هذا الطرح كان بشكل عام معبرا عن وجهة نظر التجار والصناع الذي يعانون ضررا مباشرا من تقليد منتجاتهم وعرضها في الأسواق بأسعار أرخص من أسعار منتجاتهم الأصلية. ومع أني أتفق مع خطر هذه الظاهرة على جميع مناحي حياة الناس، إلا أن مناقشة هذه الظاهرة تتطلب مزيدا من العمق والموضوعية في الطرح، ومحاولة جادة لفهم السبب الذي يجعل المستهلك البسيط يلجأ إلى قبول تلك المخاطر وشراء تلك المنتجات الأرخص سعرا. وفي رأيي، أن معالجة هذه الظاهرة لن يكتب لها النجاح المأمول دون فهم احتياجات المستهلكين ومحدودية قدراتهم الشرائية، ومعاناتهم من ارتفاع أسعار السلع بما يدفعهم إلى اللجوء إلى البدائل الأرخص سعرا حتى لو كانت تتضمن بعض المخاطر الظاهرة أو الخفية. أعلم أن بعض هذه المخاطر ربما يكون مميتا، كما لو وقع الغش في المنتجات الدوائية أو الغذائية على سبيل المثال، لكن هذه المخاطر يمكن أن تكون مقبولة لدى المستهلك البسيط في حالة كثير من المنتجات العادية. إن ارتفاع أسعار بعض المنتجات فوق طاقة المستهلك هو ما يتيح المجال لكثير من الأدعياء لاستغلال حاجة الناس عبر تقليد تلك المنتجات وطرحها بأسعار تلائم قدراتهم، مع كل ما يحمله هذا الأمر من مخاطر ربما تتفاوت بحسب طبيعة المنتج.
من جهة أخرى، فإن التناقض الذي نعيشه في معالجة هذه المشكلة تناقض مخل، ومقدار الرقابة والمعالجة لمثل هذه القضايا ما زال دون المستوى المأمول، وما زالت محال أبو ريالين تملأ شوارع مدن مملكتنا الحبيبة، وهي المصدر الأول للسلع والبضائع المغشوشة رخيصة الثمن، وما زال دور السلطة القضائية قاصرا في الضرب بيد من حديد على القضايا التي يتم تسجيلها، خاصة ما يؤدي منها إلى مخاطر على حياة الناس وصحتهم، فلم نسمع يوما عن إجراء قضائي ضد أية جهة كانت تحت راية حالات الغش التجاري، وما زال كثير من التجار المسجلين في الغرف التجارية العاملة تحت مظلة مجلس الغرف الموقر يسعون إلى الحصول على منتجات رخيصة من الصين وغيرها بمواصفات مبتذلة وغير معتمدة. إن معالجة قضية الغش التجاري تتطلب مقاربة متوازنة وشاملة تأخذ في اعتبارها متطلبات المواطنين ومصالحهم وقدراتهم من ناحية، وتفعيل دور الرقابة وتطبيق العقوبات بشكل حازم، خاصة في القضايا التي تتعلق بمخاطر حقيقية على حياة الناس. والأمر هنا يتطلب بالضرورة تضافر الجهود بين جميع أجهزة الدولة لتحقيق هذا المفهوم، فلا يعقل أن تتولى جهة كمصلحة الجمارك منفردة تبعات هذا الموضوع، بل لا بد أن تشترك فيه جميع الجهات الأخرى، بما فيها وزارة التجارة وهيئة المواصفات والمقاييس ووزارة المالية والأجهزة القضائية وغيرها من الجهات ذات العلاقة، علاوة على تفعيل دور القطاع الخاص الذي يرفع رايته ويمثله باقتدار مجلس الغرف السعودية.
القضية الأخرى التي أسوقها هنا، أن مفهوم الغش لا يتعلق فقط بالمنتجات الاستهلاكية، ويجب ألا يرفع راية محاربة الغش التجاري التجار أنفسهم فقط، فيما يوحي بأن مثل تلك الحرب تنطلق من اهتمام بمصالحهم الخاصة. الغش بمفهومه العام يمس جوانب عديدة لم يتناولها البحث، ولم يتطرق إليها أحد من المتحدثين لا في ذلك الملتقى ولا في غيره من المحافل. فعلى سبيل المثال، فإن تناول قضية الإسكان من قبل كثير من الكيانات العقارية يتسم بالغش فيما يقدمونه من حلول تبعد عن معالجة جذور المشكلة، أو تقدم لهم منتجات سكنية ذات جودة ملائمة. وكذلك فإن نشر وتداول المعلومات المغلوطة عن أي قطاع من قطاعات الاقتصاد هو من قبيل الغش والخداع لمفاهيم السوق تؤدي به إلى بناء قرارات استثمارية على أسس غير صحيحة، كما يشهده كثيرون في سوق الأسهم أو العقارات أو غير ذلك، وأكبر من ذلك ما نشهده من حديث عن تعثر المشاريع الحكومية، الذي أضعه في مصاف كبريات حالات الغش البشري، وهو حالة فريدة ومهمة تتطلب وقفة جادة من أجهزة الدولة، وعلى رأسها وزارة المالية، لمراجعة آلياتها في إدارة هذا الملف للارتقاء بجودة تلك المشاريع، وتحقيق انعكاساتها على منظومة التنمية الوطنية، وما نعيشه من تدن ملحوظ في مستويات التعليم والصحة في بلادنا نموذج آخر للغش، يمس جوانب مهمة من حياة الناس. سأكتفي بهذه الأمثلة لأدعو إلى توسيع النظرة إلى قضية الغش التجاري، وإعادة تسميتها باسمها الصحيح، ليكون موضوعنا الأهم ضبط الجودة في مختلف المجالات. يجب أن نسعى إلى ترسيخ هذا المفهوم على المستويات كافة، وعلى رأسها أجهزة الدولة، ليس فقط لأنها تقود مسيرة التنمية في بلادنا، بل لأنها تمثل القدوة والنموذج الذي يمكن أن يتبعه الناس. الغش يا إخوتي ليس ناتجا عن سوء الخلق وغياب الأمانة والبحث عن المصالح المادية فقط، لكن نقص الكفاءة وحسن الأداء شكل من أشكال الغش الذي يؤدي إلى تبديد الجهود وتعطيل مسيرة التنمية, والأمانة ليست المعيار الوحيد لتقييم الأداء، بل إن الكفاءة والقوة تلعبان دورا ربما يكون أكثر أهمية في هذا الإطار، أليس ''خير من استأجرت القوي الأمين''؟