الخدمة المدنية .. ألم يحن وقت المراجعة الشاملة؟

''الجدارة هي أساس اختيار الموظفين لشغل الوظيفة العامة''، هذا هو نص المادة الأولى من نظام الخدمة المدنية (1397هـ), ومع كل قواعد الخدمة المدنية المعمول بها (نظاما ولوائح وقرارات)؛ إلا أن كفاءة الموارد البشرية من أكبر التحديات التي تواجه الأجهزة الحكومية على اختلاف اختصاصاتها وتنوع واجباتها. الجدارة عبارة جذابة وعادلة؛ إلا أنها نسبية التطبيق عطفا على أنها، في أفضل حالاتها، تقوم على المقارنة بين المتقدمين لشغل الوظيفة العامة بأساليب تقليدية، وذلك وحده ليس ضمانة أكيدة لتحقق الجدارة المطلوبة، سواء عند التعيين أو الترقية.
لا أعتقد أنه يمكن تحقيق أداء جيد إذا ظلت إجراءات التعيين والتقييم والترقية والرواتب على حالها القائم حاليا. أقول من واقع خبرة وليس مجرد تنظير؛ إن الكفاءات الوظيفية تأتي إلى الأجهزة الحكومية مصادفة، وليس بناء على إجراءات اختيار دقيقة، وإذا دخلت هذه الكفاءات؛ فإن فرص بقائها أو استمرارية عملها بكفاءة محدودة للغاية. يدخل الموظف العام الخدمة فتتلقفه ثقافة الإدارة السماعية وليس ثقافة الإجراءات المقننة والمعايير الواضحة والإنجازات؛ ربما تمر سنوات لا يعد فيها تقرير الأداء إلا عند استكمال المدة النظامية للترقية؛ ويأتي إعداده لاستيفاء الشروط الشكلية للترقية. بعبارة أخرى التقييم ليس عملية مستمرة تعكس حقيقة الأداء، فضلا عن أن المهام الموكلة إلى الموظف ليست مكتوبة وواضحة المعالم حتى يتم قياس أدائه على أساسها.
أكبر تطبيق لواقع التقييم هو سنة التجربة التي ينص عليها النظام؛ وليت وزارة الخدمة المدنية تنشر نسبة من تم الاستغناء عنهم مقارنة بمن تم تعيينهم؛ حتى يمكن التحقق من فاعلية سنة التجربة. سنة التجربة وسيلة فاعلة للاستغناء عمن لم تثبت جدارته؛ إلا أني أرى أن تطبيقها على أرض الواقع محدود جدا لأسباب عديدة؛ منها ثقافة '' لا تقطعون رزقه'' في حين أن بقاءه يقطع أرزاق آخرين هم أجدر منه بهذه الوظيفة، وستصبح إخفاقاته لاحقا قدر كل المتعاملين مع جهته. إن اختلاف الموظفين في مهاراتهم وقدراتهم أمر طبيعي, لكن هناك حدا أدنى لا يجب النزول عنه؛ فالوظيفة العامة يجب ألا تكون ملجأ لمن يبحثون عن الأمان الوظيفي ويفتقرون إلى المهارات والقدرات المطلوبة.
والتدريب الذي يناله الموظف العام في حالات كثيرة لا يعكس الحاجات الحقيقية للأجهزة الحكومية، ولا ينظر إليه باعتباره حاجة إلى تحسين الأداء؛ إنما ينظر إليه باعتباره مكافأة للموظف. ولم ينعكس تميز معهد الإدارة العامة إيجابا على الجهات المستفيدة من التدريب؛ لأن النظرة إلى التدريب لدى الموظف العام لا تقوم على أساس أنه وسيلة للتطوير إنما باعتباره غاية للترقية والانتداب وغيرهما.
لماذا أخضع العاملون في بعض الهيئات الحكومية, التي أنشئت في السنوات الأخيرة, لنظام العمل دون نظام الخدمة المدنية؟ أعتقد أن قناعة تولدت بأن الإجراءات وسلم الرواتب والحوافز والتطبيقات القائمة في الخدمة المدنية لن تجلب المهارات والقدرات المطلوبة لشغل بعض الوظائف. فكان الحل اللجوء إلى نظام العمل حتى يمكن إقرار لوائح مرنة لاستقطاب من تحتاج إليه هذه الجهات بعيدا عن أنظمة الخدمة المدنية ولوائحها. إننا في حاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لنظام الخدمة المدنية وجميع لوائحه، والوقوف على التطبيقات المعمول بها في الأجهزة الحكومية من أجل تقويم الوضع الراهن واستحداث إجراءات جوهرية تكون كفيلة بالمحافظة على المتميزين واستقطاب كفاءات جديدة، خاصة أن دائرة المنافسة تتسع، والوظيفة العامة أولى بالأفضل. ولعل اتساع دائرة استعانة الأجهزة الحكومية ببيوت الخبرة في كثير من الحالات تعكس واقع ما يتطلبه العمل الحكومي من خبرات.
الوظيفة الحكومية ليست ضمانا اجتماعيا, بل هي مسؤولية عظيمة تتعلق بها مصالح الناس وتتأثر حاجاتهم سلبا وإيجابا بأداء الموظفين العامين واجباتهم, سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ. ولا يمكن أن تكون الرقابة وحدها ضمانا لحسن الأداء؛ فالمخرجات الضعيفة هي نتيجة مدخلات ضعيفة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي