التعيين والترقية والمنصب .. من وكيف؟
يقول الله تعالى ''إن خير من استأجرت القوي الأمين''، آية تحمل أجل وأعظم المعاني وتمثل أهم المميزات التي (يجب) أن يبحث عنها كل رب عمل، سواءً كان في القطاع الخاص أو العام أو غيرهما، عند البحث عن مرشح لوظيفة ما، أياًَ كان حجم الوظيفة أو موقعها، صغيرة كانت أو كبيرة، بل يتعاظم تأثير اختيار نوع الموظف ومدى امتلاكه خصائص القوة، وهي المعرفة والتأهيل والخبرة والذكاء والفطنة، والأمانة، وهي تحمل المسؤولية ومراعاة الله والخوف منه في تأدية العمل على أكمل وجه, والعدالة كلما كان المنصب أو الوظيفة أكبر ولها تأثير أكبر في الوطن المواطن. ويختلف الموظفون في أدائهم وجديتهم وحرصهم على العمل وإحساسهم بالمسؤولية في القطاعات الحكومية، نساءً كانوا أم رجالاً، فهناك البعض ممن يتحلى بأفضل المميزات والمهارات ويعمل بكل جدية وإخلاص بهدف تقديم أفضل خدمة وأفضل أداء ممكن لتحقيق ما هو مطلوب منه ومتوقع منه كموظف مسؤول أمام الله ثم الوطن دون مجاملة أو محاباة للمسؤولين، وهناك البعض الآخر، ممن يعمل بجد واجتهاد ومثابرة وهمة ونشاط عال، ويوجه المال العام حسب التوجيهات الشخصية للمسؤول، لكن من أجل إرضاء رغبات وطلبات رئيسه المباشر أو المسؤول الأعلى في الجهة أو الوزارة، حتى لو كانت تتعارض مع أخلاقيات العمل ولا تخدم مصلحة الوطن.
وبين هؤلاء وأولئك، نتساءل عمن يستحق المكافأة والترقية؟ من يمكن أن يعتمد عليه الوطن ويستحق أن نستثمر فيه في التدريب والدراسات العليا؟ من يستحق أن نثق به ونوكل إليه مهام وأعمالا ومشاريع مهمة واستراتيجية؟ من يتم فعلاً تقريبه والاعتماد عليه ومنحه العلاوات والترقيات وغيرها، ومن يتم استبعاده وحرمانه من العلاوات والمكافآت والترقيات وغيرها؟ من يجب أن يعاقب لإخلاله بالمسؤولية وعدم تحقيق أهداف الجهة وتخصيص وقت العمل لتقديم خدمات وتضحيات شخصية على حساب العمل وخدمة المواطن؟ وكيف يتعامل نظام الخدمة المدنية مع هذه الموضوعات بشكل يضمن تحقق الكفاءة في العمل والحصول على أعلى إنتاجية من الموظف، وعلى تحقيق العدالة والمساواة بين الموظفين فيما يخص عبء العمل، والمكافأة أو الراتب المناسب للوظيفة والمؤهلات، والترقية حسب الأداء المهني الذي يحكم عليه من خلال معايير مؤسساتية وليس على رغبات وأهواء ومجاملات شخصية للمسؤولين الذين يملكون بعض الصلاحيات التي تمنحهم حق منح ترقية أو منصب أو انتداب أو غيرها، وهي صلاحيات ربما يساء استخدامها متى ما كانت غير خاضعة لنظام واضح وعادل وشفاف ومطبق بشكل كامل؟
في القطاع الخاص، خصوصاً تلك الشركات والمؤسسات التي يملكها رجال أعمال ملكية كاملة، من الصعب أن ترى موظفين يتبأون مناصب عليا أو موظفين تتم ترقيتهم أو مكافأتهم إلا إذا كانوا فعلاً مؤهلين بدرجة كبيرة وأثبتوا مقدرتهم على رفع مستوى وقيمة الشركة. وكمثال على عدم المجاملة في العمل، طلبت أم من ابنها، رجل أعمال عصامي، توظيف أخيه، فرفض طلبها، بعد أن أقنعها بخطورة وجوده في الشركة على مستوى وأداء الشركة، بحجة معرفته بعدم كفاءة أخيه وعدم جديته ولإمكانية تأثيره سلباً في موظفي الشركة، ولحرص الأم على عدم هدر مال ابنها وضياع شركته، قبلت وشكرت ابنها على صراحته وحرصه على مصلحة الشركة وموظفي الشركة. في المقابل، نرى في بعض القطاعات الحكومية معادلة مختلفة في التعيين والترقيات والمكافآت، تعتمد كلياً على رغبة وأهواء بعض المسؤولين. فليس من الغريب أن ترى موظفاً عادياً وصل إلى أعلى المراتب والمناصب الحكومية مثل مدير عام أو غيره، بناءً على إخلاصه الشخصي وولائه منقطع النظير لرئيسه، وعمل ما يطلب منه أياً كان دون سؤال أو استفسار، وسواءً كان له علاقة بالعمل أم لا، وبغض النظر عما إذا كان يتعارض مع العمل أو لا. ولك أن تنظر في المؤهلات العلمية والخبرات العملية والإبداعية لهذا المدير أو غيره، لتفاجأ بأنها أقل من عادية، لا تعادل متطلبات العمل في مثل هذه الوظيفة العليا. لكن مع المكافآت والترقيات الاستثنائية التي ربما تصل إلى أكثر من مرة في السنة الواحدة (من خلال سوء استخدام الصلاحيات المعطاة للمسؤول)، يمكن أن يحصل المستحيل. لذلك يلاحظ أن بعض المسؤولين يحيط نفسه بمجموعة دائماً ما تكون عادية وأقل قدرة وكفاءة منه، لكنها، وهو الأهم، مخلصة ومطيعة له. أما خدمة الأقارب، فبعض يستخدم منصبه لتوظيف وترقية ومكافأة الأقارب والأصدقاء ومنح مشاريع للمقربين، بعيداً عن جوانب التقييم والشفافية والعدالة. ونجزم بأن هؤلاء المسؤولين لن يقوموا بتوظيف أو ترقية هذا النوع من الموظفين في مؤسساتهم أو شركاتهم الخاصة، لحرصهم على حماية وتنمية أموالهم الخاصة والحفاظ عليها، أما الأموال العامة، فشأن آخر. وطالما لم تتم المساءلة والتحقيق مع أي مسؤول حكومي بشأن سوء استخدام صلاحيته في التعيين والترقية واعتماد المشاريع وغيرها مع فرض عقوبات رادعة، فسيستمر البعض في استغلال صلاحيتهم لتحقيق مكاسب شخصية.
أما المؤهل فعلاً والحريص على مصلحة العمل، دون مجاملة لأحد، لا يتم استبعاده فقط وحرمانه من حقوقه المكفولة في نظام الخدمة المدنية، من قبل بعض المسؤولين، فقط، وإنما قد نفقد بعضهم، أو كلهم، من خلال تركهم العمل في القطاع العام والانضمام إلى القطاع الخاص، وهذا غالباً يحصل في السنوات الأولى لعمل هذه النوعية من الموظفين، أما أولئك الموظفون الذين يصبرون ويستمرون في المحاولة، فأغلبيتهم يصلون إلى درجة الإحباط والتبلد، ويفقدون الرغبة في العمل، ويصبح العمل بالنسبة لهم الوجود فقط في مكاتبهم أثناء فترة الدوام (لتحليل الراتب)، دون وجود أي إنتاجية، وتصعب عليهم عملية الانتقال بعد ذلك إلى القطاع الخاص. هذه الخسائر في الموارد البشرية متمثلة في فقدان إنتاجية مجموعة من المتميزين والمؤهلين، كان يمكن أن يستفيد منهم الوطن بشكل كبير. هذه الخسائر تحصل لأن بعض المسؤولين لا يريد أن يعارضه أو يناقشه أحد، فكلامه توجيهات وأوامر، وعلى الجميع تنفيذها دون تفكير أو اعتراض حتى لو كانت تعني تبديد وهدر أموال طائلة. أما من يبدي وجهة نظر مختلفة، ويعرض ويناقش النقاط السلبية أو المشكلات في الموضوع المطروح أو يبادر إلى التنبؤ بإشكاليات التطبيق أو حتى سلبيات التطبيق، فغير مرحب به، ويعتبر عمله شاذاً، لتجاوزه الحدود المرسومة له، وعدم تنفيذه قواعد اللعبة بالشكل الصحيح، فكيف له أن يعارض الرأي الأحادي؟ لكم سمعنا بكفاءات وقدرات بشرية متميزة فقدتها بعض القطاعات الحكومية أو لم ترغب في العمل في القطاع الحكومي بسبب عدم قدرتهم على التكيف مع بيئة العمل وأسلوبه اللذين يشجعان الأسلوب الفردي وينبذان أسلوب العمل المؤسساتي، وعدم خضوعهم وتنازلهم عن المبادئ والقيم الأخلاقية، وعدم سكوتهم وسؤالهم عن كل ما له علاقة بهدر المال العام، والحرص دائماً على حماية المال العام وحسن توجيهه بما ينفع الوطن والمواطن.
وإذا ما تعرضنا لأنظمة الخدمة المدنية، فنجد أنه تقادم عليها الزمن، حيث لم يكن هناك أي تطوير جذري على النظام على مدى العقدين السابقين، على الرغم من أننا نسمع بين الحين والآخر أنظمة مدنية خاصة تحت التطوير مثل نظامي الكادرين الصحي والهندسي وغيرهما، وهي محاولات ومبادرات فردية، تركز فقط على زيادة المكافآت المالية لبعض الوظائف، ولا تعالج المشكلة الأساسية وهي تحديد وتوصيف حقوق وواجبات الموظفين وتحقيق العدالة والشفافية بين الجميع، وبما يكفل رفع الكفاءة الإنتاجية وتحسين الخدمات المقدمة للمواطن، ورفع مستوى ومهارات الموظفين. إن أسلوب المبادرات الشخصية والفردية والمنعزلة في تطوير وتحسين وظائف بعض الجهات دون غيرها، يعد دليلا قاطعا وجليا على وجود حاجة ملحة إلى دراسة وتقييم نظام الخدمة المدنية بشكل متكامل والاستفادة من الأنظمة والأساليب الحديثة في مجال تطوير الموارد البشرية،
وقد يكون من المناسب أيضاً، عند إعادة دراسة وتقييم وضع أنظمة الخدمة المدنية، إعادة النظر في هيكلة وطريقة عمل القطاعات الحكومية على أساس تحقيق عدد من العوامل مجتمعة مثل التوجه الاستراتيجي والفاعلية والجودة والكفاءة والمرونة والعبء الإشرافي والعلاقات التعاونية والرقابة والموارد البشرية، مع التركيز على قياس الأداء الحكومي ووضع مؤشرات أداء تساعد على الرقابة والمتابعة والتقييم. وعلى الرغم من أن مجلس الوزراء أقر إنشاء مركز لقياس مؤشرات أداء القطاعات الحكومية قبل أكثر من أربع سنوات، إلا أن هذا لم يحدث. وربما يكون من المناسب مع ما تشهده المملكة من تسارع ونمو في تنفيذ مشاريع استراتيجية ومع وجود مشكلات وطنية مثل البطالة ينبغي التعامل معها بشكل جاد وحازم, تكليف مجلس الشورى بالعمل على مشروع متكامل يتضمن إعادة هيكلة القطاعات الحكومية وتطوير نظام جديد للخدمة المدنية وتطوير نظام شامل لقياس ومتابعة أداء عمل القطاعات الحكومية، الذي سيساعد المقام السامي ومجلس الوزراء على الاطلاع ومتابعة أداء جميع القطاعات الحكومية بشكل دقيق وفوري.
وللحديث بقية..