يتطاولون في البنيان
أثار حريق برج طريق الملك فهد في مدينة الرياض أفكارا سابقة كانت تراودني من وقت لآخر، منذ أن صدرت أنظمة البناء المعدلة التي أعدتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض لما يسمى بمنطقة العصب المركزي في المدينة، والتي أشعلت جذوة من التسابق في بناء الأبراج في تلك المنطقة، خاصة أن تلك الأنظمة لا تضع حدودا لارتفاع المباني على الإطلاق، وتتيح للمطورين أن يعانقوا عنان السماء. وإذ عاودت هذه الأفكار الظهور من عقلي الباطن بأثر من صور البرج المحترق وألسنة اللهب التي كانت تتطاير على الأبنية المجاورة والمناطق السكنية المحيطة، والمدة التي استغرقها إخماد ذلك الحريق، لعلما بأنه برج ما زال تحت الإنشاء ولم يكتمل بناؤه بعد، وجدتني أكتب هذا المقال لأسجل هذه الأفكار، لكيلا تغوص في بواطن النسيان، علها تثير الانتباه لأمور أرى أنه يجب الانتباه لها، خاصة أننا نعيش قضايا أخرى في عالم التنمية العمرانية أكثر إلحاحا من هذا التطاول في البنيان. وأجدني هنا أخص مدينة الرياض بهذا الحديث بحكم إقامتي فيها، مذكرا القارئ الكريم بأن هذا الحديث ينجر على مدن أخرى في مملكتنا الحبيبة.
عندما بدأ العمل قبل سنوات عديدة على تطوير برجي المملكة والفيصلية، ثارت في نفسي بعض الأسئلة، وهاهي تعاودني من جديد بعد أن اشتد السباق وكثرت الأبراج. فهل البنى العمرانية لمدننا السعودية يمكنها أن تستوعب مثل هذه الأبراج العالية، وهل شبكات الطرق التي كانت مصممة لمبان أقل ارتفاعا وفق الأنظمة السابقة يمكنها أن تستوعب حجم الحركة المرورية التي تصبها تلك الأبراج فيها، وهل تملك أجهزة الدفاع المدني الإمكانات والقدرات الفنية والبشرية لمواجهة أية حرائق أو كوارث يمكن أن تصيب أيا من هذه الأبراج، وهل شبكات البنية التحتية تحتمل الضغط الناشئ عن زيادة الكثافة السكانية في تلك المناطق، وهل ستوفر تلك المباني الكم الكافي من مواقف السيارات، أما أنها ستزيد الطين بلة، وتزيد جنبات الطرق بالسيارات ازدحاما فوق ازدحامها. كانت تلك الأسئلة والخواطر تتجاوز أحيانا حدود مجالات التخطيط والهندسة لتلامس جوانب أخرى اجتماعية وربما دينية أيضا. فهل يوقع إنشاء تلك المباني خرقا لخصوصيات المباني السكنية المحيطة بها، وهل يجوز إيقاع مثل هذا الضرر بأولئك السكان. وتصل الأسئلة أيضا لملامسة جوانب اقتصادية وبيئية أيضا، فهل تبرر عوائد الاستثمار هذا السباق المحموم على بناء الأبراج الشاهقة، خاصة أن تكاليف بناء برج واحد منها يمكن أن يبني عددا كبيرا من الوحدات السكنية لكثير ممن يطلبون السكن ولا يجدونه، مذكرا أن مثل هذه المباني يتطلب أنظمة هندسية خاصة ذات تكاليف كبيرة، بما فيها أنظمة المصاعد الخاصة والأمن ومكافحة الحريق وغير ذلك، علاوة على الأعباء المستمرة للصيانة والنظافة، وهل تحتمل المدينة الأثر البيئي السلبي الذي توقعه تلك المباني الذي يرتدي معظمها معاطف زجاجية تغذي زيادة درجات الحرارة في المناطق المحيطة بها. وفوق كل ذلك، هل تعبر هذه الأبراج عن هوية المدينة، أم أنها تجعل شوارع المدينة معارض معمارية يتسابق فيها المصممون لوضع لمساتهم عبر منحوتات زجاجية تصطف شاهقة على جنبات الطرق، وهل تحقق هذه المباني البعد الإنساني في المدينة، وهو البعد الذي رفع رايته سمو أمين مدينة الرياض، ووضع ركائزه في كثير من مجالات التطوير العمراني فيها.
كثيرة هي تلك الأسئلة، ولا أعتقد أنها ستجد لها من مجيب. ولذلك، سأنحرف بحديثي إلى منحى آخر ذي محورين، الأول هو في ربط هذا الموضوع بقضية الإسكان، إذ إنه يجب أن تضع الأجهزة المسؤولة عن إدارة المدينة نصب أعينها تحقيق شيء من التوازن في مشاريع التطوير في المدينة. لا يجب أن يسيطر علينا مفهوم الاقتصاد الحر بشكل مطلق، فتحقيق التنمية المتوازنة وإدارة آلياتها هو من مسؤولية الدولة وليس القطاع الخاص، حيث إن القطاع الخاص يبحث عن الربح حيثما كان. ولذلك، فإنه يجب على أجهزة الدولة أن تسعى إلى تحقيق هذا التوازن عبر تقنين مثل هذا السباق في نوع واحد من البنيان والإعمار، وتشجيع التوجه إلى مجالات أخرى تمثل في بعضها حاجات حقيقية وملحة، وعلى رأسها قطاع الإسكان . والمحور الآخر عمراني بحت، فالناظر إلى خط السماء في مدينة الرياض يرى مدينة منبسطة تسيطر عليها المباني المنخفضة ذات الطابقين، فيما تبرز بينها مجموعة من المباني الناشزة شاهقة الارتفاع مقارنة بتلك المباني السكنية المنخفضة. هذا التباين الكبير والمفاجئ في الارتفاعات شوه خط سماء المدينة، وجعلها تبدو كمدينة غير متوازنة في تركيبتها العمرانية. وفي رأيي المتواضع، فإنه من الضروري مراجعة المخطط العام للمدينة لتعديل أنظمة البناء فيها بما يسمح بتحقيق مزيد من التوازن بين ارتفاعات مبانيها، وزيادة الارتفاعات بشكل متدرج انطلاقا من محاور المدينة الرئيسية، مع كل ما يمكن أن يحققه هذا الأمر من رفع كفاءة البنية العمرانية عبر زيادة كثافتها السكانية، ولكن بشكل متدرج ومتوازن، خاصة إذا ربطنا هذا الأمر بواقع ارتفاع أسعار الأراضي، والحاجة إلى تبرير استثمارها بالبناء عليها عبر زيادة ارتفاعاتها وبالتالي زيادة عوائد تطويرها، بما يحقق تحفيزا جادا وفاعلا للقطاع الخاص، لعله ينتبه إلى جدوى مثل تلك المشروعات عوضا عن هذا التطاول الذي نشهده في بنيان الأبراج الشاهقة.
نقطة أخيرة كانت دائما مثار استغرابي حينما أنظر إلى تلك الأبراج وهي في طور الإنشاء. لماذا يتم إنشاء تلك الأبراج بالخرسانة المسلحة عوضا عن الأنظمة الحديدية، وكم يضخ فيها من كميات مهولة من الأسمنت والخرسانة يمكن أن تنشئ مدنا سكنية برمتها، ولماذا يختلف بناء الأبراج في مدننا عما نشهده من تقنيات بناء مختلفة في مدن العالم الأخرى. في الحقيقة.. لا أدري، وربما يكون لهذا السؤال من مجيب.