الأداء الحقيقي والأداء الإعلامي
التواجد على مسرح الإعلام، بشتى مصادره، ليس صعباً على جهات الإدارة الحكومية وكبار التنفيذيين فيها؛ إلا أن تبعات هذا الظهور ربما لا تكون على نحو ما يرجونه أو يبتغونه. الصحافة، على وجه الخصوص، تسعى خلف هذه الجهات؛ مراقبة في بعض الأحيان ومتابعة في أحيان كثيرة، ولعل من أهم ما يجذبها تلك العبارات الجميلة عن رؤى هذه الجهات وخططها المستقبلية بهدف سبق صحافي؛ لذا كثرت التصريحات المحملة بالآمال والطموحات والأحلام، وتراجعت في بعض الأحيان الإنجازات أو كادت تختفي.
تغري «الفلاشات» بعضا من الجالسين على كراسي العمل التنفيذي في الإدارة العامة أو الحكومية، لكن المستفيدين من خدمات هذه الجهات لا يقيسون أداءها بمساحات التواجد الإعلامي، ولا بحجم الصور المصاحبة؛ إنما بحقيقة جودة الخدمة المقدمة لهم كما وكيفا. بل إن هذا التواجد الذي لا تصاحبه إنجازات هو، في نظري، هروب من أداء ما يجب القيام به إلى ما لا يجب القيام به، طمعا في تقدير ما, هو في نظر بعضهم معنوي؛ إلا أنه شكلي لا تدعمه الحقائق والأرقام.
هذا الظهور لم يعد في صورة ما تنقله الصحافة، على سبيل المثال، من أخبار أو فعاليات؛ بل بات يتشكل في صور مختلفة؛ بما في ذلك الإعلانات المدفوعة والدعوات الصحافية المباشرة، والتهاني المتبادلة، وإعلانات الشكر والتقدير والترحيب. لا أعرف إن كان في ميزانية هذه الجهات بنود لهذا النوع من المصروفات؛ وإن لم يوجد؛ فأرجو ألا يتحمله بند مصروفات أخرى؛ لأن «أخرى» اشتكت ولقيت نصبا كثيرا «بفتح الصاد» وآن لها أن تستريح. من طرائف ما قرأته في هذا الباب, وهي كثيرة؛ أن مديرا عاما في وزارة خدمية يشكر هو ومنسوبو إدارته في إحدى المحافظات معالي الوزير على جهوده المخلصة وافتتاح إدارة لتقديم الخدمة للمواطنين!! كيف يفسر المواطن هذا الإعلان؟ من دفع تكاليفه؟ لماذا؟
يعين أحد التنفيذيين أو سواه ممن يتحملون أمانة العمل العام؛ فتتسابق شركات متعاقدة مع هذه الجهة للتهنئة والترحيب، وأعتقد أن ذلك لا يخلو من شبهات عدة؛ والأولى هو ترك ما يريب إلا ما لا يريب؛ خاصة أن هذه الشركات ما زالت مرتبطة بأعمال مع هذه الجهة أو بصدد التعاقد مها. هل كان لهذه الشركات أن تتحمل مصروفات الإعلان لو لم تكن متعاقدة مع هذه الجهة الحكومية؟ وضعت علامة استفهام مع يقيني بسذاجة السؤال. أقل ما يمكن أن يفهم في هذا السياق «لم آمر بها ولم تسؤني».
يردد بعضهم عدم رضاهم عن ذلك أو عدم رغبتهم في هذه الإعلانات والتهاني؛ وعندما تسأل عما فعلوه لمواجهته لا تجد شيئا. لا تكفي المشاعر المجردة من الفعل, إنما يجب أن يتحرك المسؤولون في هذه الجهات لإيقاف ذلك أو الحد منه على الأقل. بل ربما يقتضي الأمر تدخلا تنظيميا حكوميا لمواجهة ذلك؛ فنحن لا نعرف حدود هذا التسابق ولا غاياته.
الناس تتقبل أن يأتي الإعلام كوسيلة تعكس حقيقة ما يتم من أعمال، لا أن يتحول إلى غاية في حد ذاته؛ لتصبح صورة هذه الجهات والقائمين عليها مصطنعة الظهور؛ سواء في شكل أخبار صحافية أو أي شكل من أشكال الإعلان بجميع أغراضه. التواصل مع الإعلام أمر طبيعي، وإيصال الصورة الحقيقية للمواطن أمر مطلوب، والتجاوز عن شيء يسير من المبالغة في الأطروحات الوردية أمر يمكن قبوله؛ لكن يجب ألا ينصب كل الاهتمام على الصورة الإعلامية في جوانب شكلية ويتم التغافل عن ملفات أساسية هي جوهر الخدمة المقدمة للمواطن, وهي ما يعنيه ويهتم بمتابعته؛ لأنها تمس مصالحه التي رعتها الدولة، وأكدت دوما على القيام بها على أكمل وجه.