المالية الإسلامية .. والالتزام بقيم الاقتصاد الإسلامي
المالية الإسلامية نمط للمعاملات المالية نشأت في الأساس بشكلها المعاصر في العقد السابع من القرن الماضي بغرض أن تكون بديلا للنموذج التقليدي الذي يعتمد الفائدة أساسا للعائد، الذي يعتبره عامة العلماء في العصر الحديث محرما, وصورة من صور الربا الذي نهى عنه الإسلام.
وقيم الاقتصاد الإسلامي هنا عبارة عن ضوابط وقواعد وإرشادات يمكن اقتباسها من الهدي العام للشريعة الإسلامية، وذلك من خلال الأصول المعتبرة وما ورد في كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم. وهذان المصدران هما الأساس للمصادر الأخرى مثل الإجماع والقياس وغيرهما. وهذه القواعد والضوابط تهدف في النهاية إلى تحقيق العدالة التي هي من أعظم القيم التي يحققها التشريع الإسلامي.
وعندما ننظر إلى مفهوم القيم بمفهومها العام نجد أنها أمور قد تكون مرتبطة بالشريعة الإسلامية، فهذا أمر لا يمكن التنازل عنه بأي حال من الأحوال، إذ إن الدين هو القيمة الأهم لكل مسلم، وهو القيمة المقدمة على غيره. كما أن هناك مكونات أخرى للقيم قد يكون طابعها دنيويا لكن تجد التأكيد عليها من الشرع، وذلك مثل الصدق, الذي يعتبر قيمة دينية ومجتمعية وإنسانية وليست بالضرورة يختص بها فئة من الناس, بل هي قيمة عامة. ومن القيم أيضا ما هو مرتبط بالمجتمع وإن كان ليس بالضرورة أمرا ألزم به الشرع, بل تجد المجتمع يلتزم به كجزء من هويته, وليس بالضرورة أنه أمر اكتسب أهميته من تعاليم الشريعة الإسلامية بشكله التفصيلي, وذلك مثل اللباس الذي يختص به مكان أو بلد ما مثلا، حيث إنه جزء رئيس من المجتمع, بل قد يمثل في كثير من الأحيان هوية لا يقبل المجتمع بمخالفتها، وإن كانت في ذاتها ليست أمرا أمر به الشرع، وهذه مسألة ينبغي مراعاتها إذا لم تخالف الشرع، إذ إنها تمثل جزءا من الانتماء لهذا المجتمع واحترام خصائصه.
والحقيقة أن العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والمالية الإسلامية علاقة الجزء بالكل، فعلم المالية جزء من علم الاقتصاد، وهو نتاج للنظريات التي يطرحها هذا العلم. والاقتصاد الإسلامي تصور قائم على أن الأساس في تصرفات الناس هو الإباحة، إلا أنه من خلال مجموعة من الضوابط، تقود النظرية الاقتصادية في الإسلام إلى تحقيق أهداف مثل العدالة وتعزيز فرص التنمية، وتكافؤ الفرص في المجتمع، واستفادة عدد أكبر مما أوجد الله لهذا الإنسان من ثروات في هذه الأرض.
فلو أخذنا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع الحاضر للباد، وهو أن يتوكل الشخص الذي يعرف بالسوق بالبيع للشخص الذي يأتي من القرى والضواحي ليبيع إنتاجه، حيث يذكر العلماء أن سبب التحريم هو حتى لا يسهم هذا الحاضر في زيادة سعر السلع بسبب معرفته بالسوق، وهذا في النهاية سيسهم في أن يستفيد تاجر الجملة مثلا الذي يشتري هذه السلع بسعر معقول, خصوصا في فترات غلاء الأسعار، ثم يستفيد منه تاجر التجزئة، عندما يبيعها إليه بسعر أقل، وبالتالي تصل إلى المستهلك بسعر أقل أيضا, فالكل في هذه العملية مستفيد ابتداء من المنتج إلى المستهلك. وهذا لا يتناقض مع العدالة التي يحققها الاقتصاد الإسلامي، حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تلقي الركبان، وهم الذين يجلسون على مداخل المدن قبل الوصول إلى السوق، ليحصلوا على السلع بسعر زهيد، بسبب عدم وصول أصحاب تلك السلع إلى السوق التي يدخل في المنافسة على شرائها عدد أكبر من المشترين، كما أن في السماح لمتلقي الركبان بشراء السلع قبل وصولها إلى السوق فيه تقليل الفرص على التجار الآخرين وربما يؤدي ذلك إلى الاحتكار، حين يتمكن بعضهم من الحصول على السلع دون غيرهم.
الحاصل أن الاقتصاد الإسلامي يتضمن عديدا من القيم التي تحقق في مجملها العدالة والمصلحة العامة للمجتمع، وإيجاد الفرص لأكبر عدد للاستفادة مما أودعه الله في هذه الأرض من ثروات، وهذه التعاليم التي تضمنها كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كانت تضمنت الأحكام في جزئيات, إلا أنها تحقق بتطبيقها الأهداف العامة السابقة، فهذه الأحكام لم تنشأ إلا لتحقق أهدافا أرادها الشارع الحكيم.
والحقيقة أن مسألة القيم اليوم أصبحت قضية رئيسية في العالم بعد الأزمات المتتالية للاقتصاد العالمي، والمؤسسات المالية الإسلامية معنية بشكل رئيس بتطبيق القيم التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي، إذ إنها تمثل السمة الحقيقية التي تكسب هذه المؤسسات صفة التزامها بالشريعة الإسلامية. ولذلك لا بد أن يتم التركيز على وضع إطار نظري واضح ومتكامل للاقتصاد الإسلامي، والقيم التي يتضمنها، وهذا سيسهل بشكل كبير عملية انضباط المؤسسات المالية الإسلامية بالشريعة، وبناء حقيقي مؤصل لهذه المؤسسات يحقق الأهداف السامية للاقتصاد الإسلامي.