استشاري الحي لا يطرب

هذا هو التأجيل الثاني لتناول قضية الإسكان في المملكة، ولو أن موضوع اليوم يمس هذه القضية ولو من طرف. وأجد العذر لدى القارئ الكريم فيما يشهده الجميع من أخبار وأحداث تستثير التفاعل والتعليق، فأجدني مضطرا إلى الخروج عن نمط التتابع الذي آثرت الأخذ به، لأعلق الجرس حول بعض هذه الأحداث، خاصة أني لم أجد من يسبقني إلى ذلك من الإخوة كتاب الرأي في الصحف المحلية، وكلهم أساتذتي، ربما لأن مثل هذه الأحداث لا تقع ضمن أولويات اهتماماتهم، وهذا صلب المشكلة.
الحدث الذي أود التعليق عليه اليوم هو الخبر الذي تناولته الصحف يوم الإثنين 17 أيار (مايو) الماضي حول توقيع مجلس الغرف التجارية الصناعية مذكرة تفاهم مع مجموعة أكسفورد البريطانية للأعمال لإصدار ونشر تقرير ''السعودية 2010'' الاقتصادي. ما أود التعليق عليه ليس الخبر نفسه فقط، لكن ما ورد في نص الخبر من تصريحات صدرت من مديرة المجموعة من جهة، ومن سعادة أمين مجلس الغرف من جهة أخرى. وأبدأ بتصريح السيدة مديرة المجموعة الذي تقول فيه إنها لا تعلم شيئا عن مكاتب ومراكز الاستشارات المحلية. وأتساءل هنا: كيف يمكن لهذه المجموعة التي تعمل في السعودية منذ عام 2005 أن تصدر تقريرا عن قطاع الأعمال في المملكة، وهي لا تعلم شيئا عن مكاتب الاستشارات المحلية، التي تمثل أحد عناصر القطاع الاقتصادي، وأحد أهم أركانه؟ تناقض غريب يثير التساؤل حول قدرة هذه المجموعة على تحقيق الهدف المأمول من هذه الشراكة. ما أستغربه هو سكوت المجلس عن هذا التصريح، الذي يؤشر إلى خلل مسبق في التقرير الذي يتوقع صدوره عن هذا القطاع.
ثاني التصريحات هو قول السيدة المديرة إن ما تقوم به المجموعة وما تصدره من تقارير يختلف عن غيره، وتقاريرهم مفصلة ودقيقة ولا تقل في تفسيرها لمجريات الأحداث الاقتصادية عن 300 صفحة. وأتساءل هنا: كيف يمكن للسيدة المديرة أن تعقد مثل هذه المقارنة في ظل غياب مثل هذه التقارير فيما سبق؟ وكيف يمكن أن يختلف تقريرهم عن غيره فيما لا يوجد هذا الغير في سوق الإصدارات السعودية؟ ثم هل تحسب جودة التقارير بعدد الصفحات؟ ربما يكون الأجدر حسابها بالكيلو جرام إن رأت السيدة المديرة.
التصريح الأكثر إزعاجا جاء من سعادة أمين مجلس الغرف التجارية الصناعية، الذي قال فيه إن شراكة المجلس مع المجموعة شراكة مهنية وليست تجارية، وإن المجموعة قدمت نفسها طواعية لتقديم تقرير عن الاقتصاد السعودي. فيا سعادة الأمين، هل صدقتم أو تتوقعون أن يصدق القارئ أن هذه المبادرة الطوعية لا توجد وراءها أي أهداف أو مصالح تجارية؟ ألم يتبادر إلى ذهنكم ما تقوم به مثل هذه المؤسسات من متاجرة بمثل هذه المعلومات عبر بيعها للشركات والمؤسسات المحلية والدولية التي تسعى إلى الحصول على مثل هذه المعلومات عن كيان اقتصادي كبير مثل المملكة؟ صحيح أن المجموعة لن تكلف المجلس أي تكاليف أو أتعاب لإعداد هذا التقرير، لكن هذا لا يعني أن المجموعة تقوم بهذا العمل من منطلق خيري، أو دون مصالح خفية وراءه. أليس من المخجل أن نستقي معلومات اقتصادنا من جهة خارجية دخيلة على خصوصيات مجتمعنا واقتصادنا وبيئتنا المحلية؟ ثم كيف لهذه المجموعة أن تعمل على إصدار تقرير مثل هذا التقرير في ظل غياب أي مصادر مؤسسية للمعلومات في المملكة؟ ولو وجدت هذه المعلومات فإن الأولى بها هو الاستشاري المحلي الذي يعاني الأمرين في الحصول عليها. وإن كان للمجلس الموقر قدرة على مساعدة المجموعة على الحصول على هذه المعلومات فالأولى أن يدعم الكيانات المحلية في هذا المسعى الذي يشكل معضلة حقيقية وعائقا أساسيا أمام الكيانات الاستشارية المحلية. ثم لماذا ينحصر قبول المبادرات الطوعية من الجهات الخارجية؟ ألا يمكن استقطاب مثل هذه المبادرات من الكيانات المحلية؟ أعلم علم اليقين أن مثل هذه المبادرة الطوعية سبق أن تقدم بها على الأقل واحد من الكيانات الاستشارية المحلية إلى المجلس ذاته، ولم تجد هذه المبادرة أي أذن صاغية، ربما لأن هذا المسؤول عن هذا الكيان ليس أزرق العينين ولا أشقر الشعر. وربما يرى سعادة الأمين أن الكيانات الاستشارية المحلية لا تملك الخبرات أو القدرات اللازمة لإعداد مثل هذا التقرير. وأجدني أجيبه بأن هذه الخبرات لا تبنى إلا من خلال إتاحة الفرصة للممارسة وتحمل المسؤولية. كان الأجدر بالمجلس على الأقل أن يلزم المجموعة بالعمل المتضامن مع أحد الكيانات الاستشارية المحلية، ليس فقط لنقل المعرفة المحلية بشؤون المجتمع الاقتصادي، لكن لتأسيس الخبرة لدى الكيانات المحلية لتتمكن من القيام بمثل هذا الدور في المستقبل، ولنتمكن من تحقيق نقل المعرفة بشكل عملي وفاعل.
المشكلة أن مثل هذا التقرير, الذي تعمل المجموعة على إصداره, لا يعكس معرفة عميقة وفهما حقيقيا لسوق المملكة بكل ما تتسم به من خصوصيات ومميزات نسبية، علاوة على أنها تطبخ في مطابخ خارج حدود الوطن، ودون أدنى جهد للتدقيق في صحة ما تتناوله من معلومات. وكم رأينا قبل ذلك من مشاهدات على هذا الواقع، كان آخرها التقرير الذي صدر قبل نحو شهرين عن مجموعة سيتي سكيب في دبي حول أسعار العقارات السكنية في المملكة، الذي ورد فيه أن أسعار الوحدات السكنية في الرياض تفوق مثيلاتها في جدة بنحو 16 مرة، وهي المعلومة التي لا يمكن أن يصدقها أحد، ويعلم خطأها الصغير قبل البالغ، والمجنون قبل العاقل، والعامي قبل المتخصص. والخطورة هنا ليست في مضمون مثل هذه المعلومات المغلوطة، بل في التأثير الذي تحدثه، والبلبلة التي تخلقها في السوق، وهي سوق فيها ما فيها من مشكلات، ولا تحتمل مزيدا من الضرر جراء مثل هذه الطروحات العشوائية في المعلومات والدراسات.
مجلس الغرف التجارية الصناعية يتحمل مسؤوليات جسيمة في النهوض بجميع أركان القطاع الاقتصادي في المملكة، والدور الذي يؤمل أن يقوم به في هذا الإطار يجب أن يبنى في أساسه على الثقة بالمؤسسات الاقتصادية المحلية، وقدرتها على تحمل المسؤولية، والعمل على تمكين هذه المؤسسات من تنمية قدراتها وخبراتها عبر إتاحة الفرصة لها للانخراط في مهام التنمية الاقتصادية الوطنية، وإلا فإننا سنظل نراوح مكاننا، وسيبقى اعتمادنا على مصادر الخبرة الخارجية مسيطرا على جهود التنمية، بكل ما يحمله هذا الواقع من مخاطر محدقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي