رحيل الجابري انهيار في بنية الفكر العربي المعاصر
على المستوى الكبير للأمة لا تكون الخسارة الحقيقية في مجال الصفقات التجارية أو في سوق الأسهم بمقدار ما تتجلى في غياب الأعلام الذين يضيئون دروب الحياة البشرية. ومن الطبيعي ألا يستسيغ كثيرون هذا الرأي, نتيجة أن الخسارة المادية محسوسة الآثار، أما الخسارة الفكرية فلا يحس بها إلا من خلال التأمل العميق, ولهذا يمكن القول باطمئنان إن خسارة الساحة الفكرية العربية المفكر الأبرز محمد عابد الجابري خسارة كبرى حقيقية للعالم العربي تفوق في قساوتها ما فقدته في الأزمة الاقتصادية الأخيرة, ولا سيما أن أي أزمة اقتصادية في العادة تعالج مهما كانت قاسية ويعوض فاقدها مهما كان كبيراً, وإن كان ذلك على المدى البعيد، أما غياب الأعلام فلا يعوض لأن مواقعهم في البناء الفكري والعلمي تبقى شاغرة للأبد.
وإذا كان أغلبية المتخصصين في المجالات العلمية لا يعرفهم إلا من يعيش معهم في دائرة العمل, وإذا مات أحدهم طوي في عالم النسيان, فهذا يعود إلى أنهم مجرد دارسين لم يضيفوا للعلم شيئاً مهما أنجزوا من أبحاث ومهما ألفوا من كتب فهم في النهاية نسخ تنتهي بنهاية حياتهم، أما الأعلام الكبار فهم الذين يعطون القيمة الحقيقية لتخصصاتهم نتيجة الإبداع الذي حفظ مكانتهم, فكما أعطى الدكتور عبد العزيز الدوري قيمة للتاريخ وأعطى الدكتور علي الوردي قيمة لعلم الاجتماع وأعطى الدكتور جمال حمدان قيمة للجغرافيا, فلا شك أن الدكتور محمد عابد الجابري أعطى قيمة كبرى للفلسفة والفكر، ومن هنا سيبقى هؤلاء في الذاكرة الفكرية والعلمية بكل اقتدار وتصبح وفاتهم مجرد منبه إلى عطاءاتهم وإبداعاتهم.
من وفق في لقاء الدكتور محمد عابد الجابري والحديث معه يجد التواضع الجم والإصرار عند الإطراء بأنه إنسان عادي يستفيد من آراء قرائه، ولم يسجل عليه يوماً مقالة واحدة أو لقاء واحد في نقد خصومه، فقد كان نزيه القلم عفيف اللسان وهي خصيصة لا يبلغها سوى الرموز الذين لا ينظرون إلا من خلال شرفات المجد والعلياء بعيداً عن المشاحنات وسفاسف الأمور، وهذا الرمز شق طريقه بكل همة واقتدار رغم محاصرة المصاعب ومجابهة الفقر, فبدأ حياته مدرساً للصف الأول الابتدائي ثم مديراً للمدرسة ثم موجهاً لمادة الفلسفة لينتهي به المطاف أستاذا رائداً للفلسفة في جامعة محمد الخامس في الرباط.
يصعب أن يكتب المتابع لنتاج الجابري مقالة عنه لأن مسحتها لا يمكن أن تفي بالتعريف به, أو تتحدث عن جانب من إبداعاته, ولذا يظل الحديث في مثل مقالة كهذه لمحات محدودة عن هذه الشخصية الفريدة. ومع أن إبداع الجابري يتجلى بوضوح في رباعيته الفكرية المتميزة تحت عنوان نقد العقل العربي وهي: ''تكوين العقل العربي'', ''بنية العقل العربي'', ''العقل السياسي العربي'', و''العقل الأخلاقي العربي'', وهذه الرباعية غنية لمن أراد أن يستوعب العقل العربي بكل أبعاده ولذا فإن اقتناءها من الضرورات الأساسية لكل أساتذة الجامعات والمثقفين، غير أنه من غير الصواب اختزال إنتاجه الفكري في نقد العقل العربي وكأن ذلك خلاصة إنتاجه، فالالتفات إلى إنتاجه الغزير في المجالات الفكرية الأخرى ملزم لكل متابع موضوعي لأنها ترتقي في الأهمية والإبداع إلى مستوى نقده العقل العربي.
وإذا كان من الخلل تخصيص بعض كتبه بالذكر هنا فإن من الصعب حصر ما كتبه سواء على شكل مؤلفات أو مقالات أو مقابلات, لكن لا بأس من ذكر بعض مآثره التي لا تقل أهمية ـ كما ذكر آنفاً ـ عن مجموعة ''نقد العقل العربي'' ومن كتبه الرائعة الأخرى ''قضايا في الفكر المعاصر'', الذي تحدث فيه بعمق عن ست قضايا معاصرة ومنها قضية العولمة, وكتاب ''إشكاليات الفكر العربي المعاصر'' ومنها إشكالية الأصالة والمعاصرة، وكتاب ''وجهة نظر: نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر''، وكتاب ''المثقفون في الحضارة العربية'' تحدث فيه عن محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، وكتاب ''المشروع النهضوي العربي .. رؤية نقدية''، وكتاب ''في نقد الحاجة للإصلاح'', الذي ناقش فيه قضايا مهمة منها مفهوم المجتمع المدني ومفهوم حقوق الإنسان، وكتاب ''حفريات في الذاكرة من بعيد'', وهو كتاب عن سيرته يمكن لمن قرأه أن يستضيء بمسيرته التي عانى فيها الفقر والحياة الصعبة التي عاشها بعيداً عن والده ومع هذا شق طريقه بعزيمة واقتدار، ولا ينبغي في هذا السياق أن نغفل كتابه الفريد ''مدخل إلى فلسفة العلوم'' الذي سلط الضوء فيه على العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي.
إن أسلوب الجابري واحد من أهم مزايا هذا المفكر العظيم, إذ يمتاز أسلوبه بالبساطة المتناهية والبعد عن المصطلحات الغريبة على الرغم من إتقانه اللغتين الفرنسية والإنجليزية على النقيض من أسلوب أغلبية مفكري المغرب العربي الذي يزخر بعديد من القامات الفكرية من أمثال الدكتور أبو يعرب المرزوقي والدكتور طه عبد الرحمن وغيرهما, إلا أن أساليب هؤلاء الرموز تلتحف بالتعقيد والتقعر اللغوي, الأمر الذي أدى إلى عدم تمدد نتاجهم الفكري في المشرق العربي, ما زاد من قيمة الجابري وحده خاصة لدى المشارقة، وليس من المبالغة في شيء إذا قيل إن الدكتور الجابري أصبح قطب أقطاب الفكر والفلسفة في العالم العربي المعاصر.
في الوقت الذي عانى الجابري فيه القدح من بعض المندفعين واتهامه بالعلمانية, نجد الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم ''الدين والسياسة'', وكما هو أسلوب الكبار, يشير إلى أن الجابري ينكر العلمانية ولا يقرها, وذلك في معرض تعليقه على رأي الجابري بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أوقف العمل بالنصوص من أجل المصلحة في بعض القضايا، وقال القرضاوي إن كل ما ساقه الجابري في هذا الموضوع ناتج من سوء الفهم لموقف عمر - رضي الله عنه- ولا شك أن هذا التعليل وحده الذي يتفق مع روح الإسلام ومبادئه. والدكتور القرضاوي لم يتعامل مع الجابري فقط بإعطاء الملاحظات, بل نجده يستشهد بآرائه في مواقع أخرى, ما يدلل على مكانة الجابري عند كبار العلماء في العالم الإسلامي الذين عرفوا بمنهج الاعتدال والوسطية، ففي الوقت الذي يختلف فيه القرضاوي مع سيد قطب ومحمد الغزالي - رحمهما الله - في بعض مواقفهما من التاريخ الإسلامي, وذلك في كتابه ''تاريخنا المفترى عليه'' نجده في الكتاب نفسه يستشهد برأي الجابري الذي قال فيه ''أنا لست من رجال القانون لكن اهتمامي بالتراث يجعلني أشعر بالقلق والانزعاج عندما أسمع من يقول: إن الإسلام أو الشريعة الإسلامية بالتحديد لم تطبق منذ عصر الخلفاء الراشدين، يقلقني هذا القول بأن الشريعة لم تطبق طوال أربعة عشر قرناً الماضية...) ووصف القرضاوي هذا الرأي للجابري بأنه كلمة بليغة نيرة, ثم أضاف قائلاً: إن الله سدده في هذا التعقيب أثناء ندوة ''التراث والتحديات المعاصرة'' التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية عام 1984.