ارحموا منْ في الأرض يرحمكم منْ في السماء
أطل علينا الصيف بهبوب السموم وارتفاع حرارة الجو وطول النهار- أعاننا الله على اجتيازه- والناس فيه فئات، فمنهم منْ قد منَّ الله عليهم بنعمة الرفاهية والخير الكثير، يعيشون في بيوت مُكيَّفة ويعملون في مكاتب ومرافق مُبرَّدة ويتناولون ما شاءوا من أنواع المشروبات والفواكه اللذيذة التي تُذهب عنهم تعب وإرهاق العمل وتُنعش نفوسهم، وتنقلاتهم بواسطة مركبات فارهة ومُكيفة تحملهم من باب المنزل إلى مقر العمل وتعود بهم بعد انتهاء الدوام. وفي الغالب فإن هذه الطبقة من المجتمع يقضون أيضا معظم وقت الصيف في سياحة خارجية بين بلدان لا تعرف من حر الصيف إلا اسمه، تكثر فيها الأمطار والحدائق الغناء، يصرفون فيها ما شاء الله من العملات الصعبة التي يتحمل كبير عبئها اقتصادنا الوطني، وإسرافهم في نظرهم وسط واعتدال.
أما الفئة الثانية من مجتمعنا الكبير فهي ما يُطلق عليها عادة الطبقة المتوسطة، وهي في الغالب القاعدة التي يرتكز عليها تقدم المجتمع وقوة اقتصاده، وكلما اتسعت مساحة هذه القاعدة كان الوضع العام في البلاد أكثر ثباتاً. والطبقة المتوسطة في مجتمعنا على وجه العموم لا تميل كثيراً إلى السياحة خارج البلاد، ربما بسبب مستوى متوسط الدخل لديهم. لكن بعضهم يتنقلون في ربوع المملكة خلال المواسم والعطلات الدراسية، إما إلى الأماكن المقدسة وإما إلى المناطق السياحية، ما ينتج عنه زيادة في الحركة الاقتصادية وبث روح الاختلاط والاندماج بين أفراد المجتمع الواحد، وهو أمر مرغوب. وينعم معظم أفراد هذه الطبقة بمستوى لا بأس به من وفر المعيشة والسكن المريح والرفاهية المعتدلة، التي بطبيعة الحال تُهوِّن عليهم صعوبة التكيف مع الأحوال الجوية الحارة أيام الصيف.
والفئة الثالثة، وهي المقصودة بهذا المقال، فهي التي من الممكن تصنيفها على أنها الطبقة الكادحة والأقل نصيباً من رغد العيش والرفاهية التي تُساعد على تحمل التغيرات الجوية وارتفاع درجات الحرارة والرطوبة المزعجة. ويدخل ضمن هذه المجموعة العمالة الأجنبية التي يعمل أفرادها في المواقع المكشوفة تحت حرارة الشمس الحارقة ولساعات طويلة خلال أيام الصيف المعروف بطول نهاره وقصر ليله. ونود في هذه العجالة أن نتحدث عن المشاق العظيمة والإنهاك البدني الذي يُعانيه العاملون داخل المباني التي لا تزال تحت الإنشاء والتي تكون عادة مُحاطة بالجدران, وكذلك الذين يعملون في الشوارع التي تلتهب فيها الحرارة، وعلى وجه الخصوص عند ما تكون الرياح راكدة والأرض تعكس حرارة الأشعة الشمسية لتضرب بها الوجوه، وهو وضع مُنهِك لا يُقدِّره ويعرف مدى تأثيره النفسي والبدني إلا منْ مارسوا مهنة العمل في مثل تلك المواقع وتحت الظروف نفسها. وهنا يأتي دور الرحمة والرأفة والإنسانية من أصحاب الشأن في حق مُستخدميهم الذين هم مسؤولون عن سلامتهم. فنحن نُشاهد أولئك العُمال وهم يُقاومون المشاق التي يتعرضون لها من شدة الحرارة التي تُحيط بعملهم وأبدانهم تنزف عَرَقاً تحت سمع وبصر الذين يملكون أمرهم القابعين في أبراجهم المُكيفة. ومن المؤسف أنك لا تجد في أغلب مواقع العمل ما يكفي من الماء البارد الذي يُساعد على تلطيف جسم العامل المنهك من أجل تعويض ما يفقد من السوائل، وذلك على أقل تقدير من باب إبراء الذمة. فحرام علينا أن نجلب إنساناً فقيراً للعمل في بيئة قاتلة، لا حول له ولا قوة، ثم نتركه يتعذب ويتألم دون أن نعمل على تخفيف مُعاناته، ونحن لاهون بأنفسنا ورفاهية حياتنا.
وهناك كثير من دول العالم، بعضها مُجاور لنا، أحسوا بالإجحاف في حق عُمال البناء ومن في ما يُشبه وضعهم، فأصدروا قوانين تُنظم ساعات العمل وقت النهار في عز حرارة الصيف بحيث يُؤدي العاملون الواجب المطلوب منهم على فترتين، صباحية ومسائية كل منها أربع ساعات ومنحهم وقت راحة في وسط النهار، ربما من الساعة العاشرة صباحاً حتى الثانية بعد الظهر. وذلك مع ضرورة توفير نقلهم ذهاباً وإياباً إلى مكان مُريح. ومن المؤكد أن العامل الذي يُمنح هذه الميزة سيكون إنتاجه أفضل بكثير من العامل المُهمَل الذي حتما سيكون أغلب الوقت مُنهكاً ومُنهار القوى. وإذا لم يكن ذلك من باب تحسين جودة العمل، فعلى الأقل من باب الرحمة والإنسانية والتمثُّل بالأخلاق الإسلامية التي أمرنا رسولنا - عليه أفضل الصلاة والتسليم - بممارستها مع منْ لنا ولاية عليهم وتحت إمرتنا. لكن الأفضل والأضمن هو أن يكون للدولة - حفظها الله- دور فاعل في وضع القوانين والنُّظم اللازمة لتنظيم أوقات العمل أيام الصيف في المواقع التي يطول العامل فيها ضرر صحي, كما هي الحال في المناطق الحارة من بلادنا. ومنْ لديه شك في وجود سوء الأوضاع السائدة حالياًّ، خصوصاً من رجال الأعمال والمقاولين الذين يقومون ببناء المشاريع بواسطة العمالة الأجنبية، وهم أصحاب الشأن، فليتفضل بنفسه إلى موقع العمل ويرى بأم عينيه ولو لمدة لا تتجاوز 30 دقيقة حال العاملين بين جدران المباني عندما تسقط أشعة الشمس عمودية على رؤوسهم. ثم أليس من المناسب أن تتدخل مؤسسات حقوق الإنسان للمساعدة على حماية العمالة الوافدة من إهمال وضعهم في بيئة العمل؟ ونحن نتمنى أن يكون لأفراد المجتمع عامة، وعلى وجه الخصوص مراكز الأحياء، دور في هذا المجال، بحيث يُقدِّم أهل الخير ما تجود به نفوسهم لهؤلاء العمال، ولو على الأقل الماء البارد. ويجب علينا مُجتمعين أن نتذكر أن ديننا الإسلامي الحنيف هو دين الرحمة، فلنبن علاقاتنا بعضنا مع بعض ومع الذين يعملون أجراء لدينا على أسس الخوف من الله الذي أرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين.