عندك خمسمائة قديمة يا شيخ؟

عرجت على إحدى محطات الوقود على الدائري الشمالي لتعبئة سيارتي بالوقود. فرحِت عندما كان الشخص الذي يملأ السيارة رجلا عربيا كبيرا في السن نوعا ما ويحدثني بالعربية «فل ياعم»، بعد أن تم الرجل من تعبئة السيارة، فتحت محفظتي وأعطيتة ورقة من فئة خمسمائة ريال الطبعة الجديدة. رفع الرجل الورقة النقدية الى النور وأخذ يتفحصها بدقة ثم التفت إليّ قائلا (ما معك خمسمائة قديمة ياشيخ؟)، نظرت مرة أخرى إلى محفظتي فإذا الورقة الأخرى هي من الفئة والطبعة الجديدة نفسها، فأجبته بالنفي واستغربت سؤال الرجل، ففي العادة يتذمّر عمال محطات الوقود حينما تعطيه ورقة نقد كبيرة على أساس أنه لا يوجد صرف (فراطة) لها. لكن الرجل لم يمانع من ورقة الخمسمائة لعدم وجود صرف. سألته بلطف وما بال الخمسمائة التي معك؟ أجابني بكل حسرة: البارحة عرج علي رجل قمت بتعبئة سيارتة بالوقود وأعطاني ورقة من فئة المائتي ريال الجديدة وأعطيته باقي نقوده وحينما سلّمت صاحب المحطة الغلّة اليومية (طِلعت المائتي ريال مزيفة وصاحب الحلال أعطاني الورقة وخصمها من مرتبي، وأنت أعطيتني ورقة من فئة خمسمائة ريال لا أعلم أنها صحيحة أم مزيفة وراتبي لا يتحمل كل هذا).
مقدمة بسيطة لموضوع اقتصادي بالغ الأهمية وهو تزييف العملة و تأثيراته الخطيرة جدا في الاقتصاد. جميعنا يعرف مدى الضرر والاختلال الذي يحدثه تزييف العملة على عرض النقد M1 وM2 و M3بالتالي يؤدي الى عدم وضوح الرؤيا لمعدلات التضخم ومستوى السيولة. وفي هذا الإطار تكون الخسارة الاقتصادية الإجمالية التي يتعرض لها المجتمع نتيجة تزييف العملة خطيرة ومؤثرة بوجه عام، ويقع الضرر الأكبر لتزييف العملة على عاتق الأفراد ومؤسسات الأعمال وذلك لعدم حصولهم على تعويض مقابل الأوراق النقدية المزيفة. هذا إضافة إلى أن تزييف العملة قد يؤدي إلى فقد الثقة بأنظمة الدفع وتسرب الشكوك إلى أفراد المجتمع حول قبول أي أوراق نقدية خلال العمليات النقدية.
في تقديري الشخصي أرى أن إخواننا في وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي صبوا مجمل تركيزهم على موضوع لا يقل أهمية، وهو مكافحة جرائم تبييض الأموال, ووضعوا لذلك جميع الظوابط والمحاذير التي أصبحت محل تركيز في جميع البنوك العاملة في المملكة. لا أريد الزج بكلمة إهمال فيما يخص جرائم تزييف العملة، ولكن يبدو أن التركيز عليها لا يحظى بالتركيز نفسه على عمليات تبييض الأموال رغم أنها أشد خطورة على الاقتصاد القومي، وأقول هنا أشد خطورة لأن عمليات تبييض الأموال عادة ما يكون تأثيرها مؤقت حيث إنها تدخل دائرة السيولة النقدية وتخرج منها بعد حين، فيما أن تأثير عمليات تزييف العملة يبقى في دائرة السيولة على المدى الطويل لإحداث أكبر ضرر ممكن بالاقتصاد.
بحسب تقارير مؤسسة النقد الشهرية عن شهر فبراير 2010 بلغ عرض النقد M1 نحو 532 مليار ريال وبلغ عرض النقد M2 نحو 850 مليار ريال وبلغ عرض النقد M3 قليلآ فوق الترليون ريال. هذه أرقام سيولة كبيرة جدا إذا ما قورنت بأرقام دول الشرق الأوسط، مما يجعلنا أرضا خصبة لمجرمي تزييف العملة الذين يعون جيدا حجم النقد وبالتالي قاموا ببناء معمل السبك في بعض الدول الحدودية المجاورة ويقومون بتهريب العملة المزيفة إلى الداخل عبر المنافد الحدودية. وزارة الداخلية ورجال المهمات الخاصة لم يتوانوا في بذل الجهود الجبارة في الإطاحة بالشبكات الإجرامية التي تريد الضرر لهذا البلد. ورجال الجمارك في المنافذ البرية والبحرية والمطارات يبذلون الجهود للحيلولة دون دخول المخدرات والعملات المزيفة إلى داخل البلد.
بالنسبة لتزييف العملة أرى أن وزراة المالية ومؤسسة النقد لديهم الكثير مما يمكنهم عمله للحيلولة دون تمكّن هولاء المجرمين من تزييف العملة، فلديهم من الموارد المالية والخبرات مما يمكّنهم من استحداث عملة ورقية لايمكن تزييفها بأي شكل من الأشكال، كما فعلت في هذا الصدد دول مثل سنغافورة وهونج كونج سابقآ. من المفارقات المضحكة أن ترى في هذه الدول تقليد لجميع الساعات والعلامات التجارية العالمية، لكن لا يمكن أن تجد دولارا سنغافوريا أو هونج كونجيا مزوّرا. لقد سبق أن شاهدت فليما وثائقيا عما كانت تعانيه هونج كونج من ضرر تزييف دولارها، وكيف استطاع خبراؤها الماليون من استحداث عملة ورقية غير قابلة للتزييف، وقد نجحوا في ذلك لدرجة أنك لن تجد دولارا واحدا مزوّرا.
ربما أن الوقت مناسب جدا بالنسبة للنظر في استحداث عملة ورقية غير قابلة للتزييف خصوصآ ونحن مقدمون على عملة خليجية موحدة، واختيار الرياض لتكون مقر البنك المركزي الخليجي الموحد، جعل المسؤولية الملقاة على عاتق وزارة المالية ومؤسسة النقد أكبر مما هي عليه الآن. ربما علينا أن نكون استباقيين في هذا الصدد وذلك بجلب تلك الخبرات التي سبقتنا في هذا المجال إما لاستحداث ريال سعودي غير قابل للتزييف أو لعملة خليجية غير قابلة للتزييف.
لكم دعائي بدوام الصحة والعافية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي