ماذا بعد الأزمة .. فكر جديد أم العودة إلى الرأسمالية القديمة؟ (1من2)
هل بدأ العالم فعلا يخرج من أكبر أزمة اقتصادية واجهها في العصر الحديث؟ الاقتصادات الكبرى بدأت تسجل نموا إيجابيا, خصوصا في الربع الأول من السنة الحالية, والأسواق المالية العالمية في صعود مستمر بات يقربها من مستويات ما قبل الأزمة. ونجحت خطط الإنعاش الحكومية في إنقاذ البنوك والمؤسسات المالية التي كانت على وشك الانهيار بفعل الأزمة وتداعياتها, بل إن بعض هذه البنوك بدأ فعلا في تسديد ما عليه من قروض حكومية مع فوائدها, وهذا الأمر استبشر به كثيرون وعدّه بعضهم نجاحا للخطط التي اعتمدت لإنقاذ هذه البنوك. حتى المؤسسات الصناعية مثل شركات السيارات الأمريكية التي تلقت دعما ماليا كبيرا من الحكومة الفيدرالية لإنقاذها هي الأخرى عادت لها الحياة وبدأت تسجل أرباحا جيدة وبدأت تعيد جزءا من الأموال الحكومية التي اقترضتها في مرحلة الأزمة. كل هذه الأمور والمؤشرات الإيجابية كان لها فعلا دور مؤثر في تهدئة المخاوف من أن هذه الأزمة ربما تطول أكثر من سابقاتها, وأنها أكبر من أن تتم السيطرة عليها في سنوات قليلة. لكن في المقابل هناك خبراء يقولون إن الأزمة ما زالت موجودة, وإن الخروج من الأزمة سيكون بطيئا وسيحتاج العالم إلى سنوات عديدة للتعافي بالكامل من آثار هذه الأزمة. أما المؤشرات الإيجابية التي نشهدها في الوقت الحاضر فما هي إلا انعكاس لخطط الإنعاش الحكومية وبرامج الإعانات الاجتماعية الضخمة, فمثلا نجد أمريكا باتت تنقذ مصرفا تلو الآخر, وتؤمم بعضها, وتضخ في الاقتصاد المحلي أموالا من الصعب تخيل حجمها, وهي كلها أموال مقترضة, فمن الصعب ألا يكون لهذا التدخل الحكومي أثر إيجابي, لكن المشكلة هي ما بعد انتهاء مفعول هذه المساعدات, وهل أن هذا الأثر مؤقت أم مستدام؟ فتحمل الدول أموالا كبيرة من أجل تقديمها للبنوك والبرامج الاجتماعية لتحدث انتعاشا مؤقتا بالتأكيد سينتهي إلى تفاقم المشكلة ويجعل من الأزمة, أزمة قطاع عام وخاص معا.
أزمة اليونان هي تأكيد لمقولة من يقولون إن الأزمة ما زالت مستمرة, وإنها الآن تدخل في مرحلة جديدة, لكن تبقى طبيعة الأزمة هي نفسها. التسهيل في تقديم القروض ومن ثم المتاجرة بهذه القروض واعتبارها أدوات استثمارية هما سبب المشكلة في كل الأحوال, فالبنوك والمصارف استدرجت الدول كما استدرجت الأفراد من قبل للاقتراض وبأموال طائلة لتمويل مشاريع ونفقات أكبر مما يتحملها الاقتصاد الوطني. قروض اليونان اليوم تصل إلى أكثر 400 مليار دولار, وتفوق إنتاجها القومي, وبالتالي فهي دولة مفلسة, ولم يعد هناك بنك أو مصرف دولي يقبل مدها بقروض جديدة لتسديد بعض ديونها السابقة. أزمة اليونان باتت تشكل تهديدا ليس فقط للاتحاد الأوروبي وعملته الموحدة, بل هناك مخاوف من أن يمتد أثرها إلى ما وراء المحيط الأطلسي ودول العالم الأخرى, وهذا ما استشعرته الأسواق المالية الأمريكية والعالمية وبدأت فعلا تهتز أسعارها بسبب ذلك. قيام الاتحاد الأوروبي بالتنسيق مع البنك الدولي إلى المسارعة في تقديم قرض مشترك لليونان بقيمة تصل إلى 140 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات, هو في الحقيقة خطة إنقاذ لأوروبا نفسها, لأن عدم إنقاذ اليونان سيفقد المصداقية بالعملة الأوروبية وسيهز الثقة بمتانة الاتحاد الأوروبي, وهذا ستكون له عواقب اقتصادية عالمية ضخمة. فتدخل أمريكا والبنك الدولي والضغط على الاتحاد الأوروبي, وبالذات ألمانيا, للمسارعة في إنقاذ اليونان هو من أجل تجنيب العالم مخاطر الارتداد مرة أخرى والوقوع في أزمة اقتصادية عالمية جديدة, أو بالأحرى القضاء على فرص الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية. الأزمة كانت تخص أفرادا وبنوكا وشركات, واليوم تصل إلى مستوى الدول, فالمشكلة هي نفسها وإن تعددت صورها. وهناك من يرى في مشكلة اليونان أنها هي البداية وستلحقها دول أخرى تعاني ديونا متعثرة تهدد سيادتها وهي الأخرى ستكون في حاجة إلى برامج دعم عالمية, فإسبانيا وصلت ديونها إلى ما يقارب 200 مليار دولار, وديون إيرلندا وصلت إلى ما يقارب 77 في المائة من دخلها القومي, وهناك دول أوروبية أخرى تعاني مصاعب مالية حقيقية, وستكون هي الأخرى في حاجة إلى معونات دولية حتى إن لم تكن بمستوى الإعانات التي تحتاج إليها اليونان, لكن هل سيكون بمقدور العالم توفير كل هذه الإعانات؟ وهل سترضى الشعوب في بعض الدول الغنية لحكوماتها بدفع ما تأخذ منهم من ضرائب لإنقاذ دول أخرى بدلا من صرفها على تنمية بلدانها؟ ولعل في نتائج الانتخابات المحلية الألمانية ما يجيب عن ذلك.
وهنا يثار السؤال الذي كان يتم تداوله في بداية الأزمة, وهو: ماذا بعد الأزمة؟