الحكمة أقوى من الرصاص

(1)
قد تعني الحكمة، الأناة والتؤدة، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأشج عبد قيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة» رواه مسلم.
وقد تعني الحكمة الصبر، والصبر يحتاج إلى زمن وكلما زاد الزمن، زادت المخاطرة وزاد العائد أيضاً، فالعائد على قدر المخاطرة، ولذا عوائد الصبر عظيمة.
وقد تعني الحكمة الإلهام، يقول علي الوردي «عالم الاجتماع العراقي» في كتابه خوارق اللاشعور إن العظماء يملكون الإلهام، فالناس تقول للقائد من هنا وهو يقول من هناك.. وحينما تسأله لماذا؟ يقول لك لا أدري، أنه الإلهام.
هل الحكمة تعلّم أم تورث.. لا أدري؟
ما أعرفه أن الخلف يتعلم من السلف وربما عبر الزمن الطويل تصبح جينات خلقية، وهي هبة من الله لبعض الناس من الناس.. يقول الهادي البشير «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة»، رواه البخاري ومسلم. المندفعون طالما اتهموا الحكمة، والحكمة ديدنها الزمن، فلا تملك إلا أن تقول لك: انتظر ثم انتظر بعد أن تنتظر.
الحكمة تقدم للخصم تنازلات من أجل عقد الصفقة وهي تعلم أن الصفقة لن تعقد غالباً لأن الساسة الموتورين أو الطارئين أو المغيبين .. يطالبون بالانتقام وإرواء الغليل ثم يفكرون لاحقاً بالعواقب فلا يحسنون الخروج قبل أن يحسنوا الدخول.. أو أولئك الكاسبون لجولة فأصيبوا بغرور القوة ولم تسعفه الستة آلاف سنة من الحضارة.. فمن يضله الله فما له من هاد حتى لو كان لديك حضارة منذ العصر الجليدي الأخير قبل 70 ألف سنة.
(2)
لا أعرف من أين للسعوديين تلك الحكمة بالتحديد.. أترى هي من السنّة فمن التزم بها ونافح عنها واتهم بالتمسك بتلابيبها فقيل وهابي.. وهو يقول: أنا والإمام محمد بن عبد الوهاب ننتمي للطريقة التي قال عنها صاحبها: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك « أخرجه بن ماجه وصححه الألباني.
يقول الإمام ابن العربي في كتابه قانون التأويل: «وأصول الفضائل التي هي علامات النجاة للنفس باكتسابها لها، واكتسابها بخلع الله عليها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدالة، أما الحكمة فهي للعلم الذي تنزه عن تطرق الجهل والشك إليه، والعمل بخلافه، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ «يؤتي الحكمة من يشاء» وبها تتطهر النفس عن البله والخبث، وذلك بأن تطيع داعي الحق وتعصي داعي الهوى وأن تحكم نفسك ولا تحكم نفسك عليك فتميل إلى رعونات البشرية» انتهى.
أي أنك كلما قربت من الفضيلة، أصبحت معتدلاً فغدوت حكيماً.
أم ترى أن الحكمة جاءت من تدفق التاريخ فأنت امتداد طبيعي للخلافة الراشدة وبني أمية والعباسيين ونور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح ومحمد بن سعود.
أو الحكمة من الاقتصاد وقوة الثروة التي تعطيك طول النفس والقدرة على استنزاف الخصم فمن ينتصر أخيراً كما يقول ويليم ديورانت صاحب كتاب «صعود وهبوط الأمم» إن الأمم التي تنتصر هي تلك التي تملك الثروة والتمويل.
قد يقول قائل إن ما تقوله ادعاء ليس فيه إلا العاطفة، وخال تماماً من الحكمة.. فأقول فما بالك بجوستاف لوبون، ناقلاً عن روسو، وهو ليس بجان جاك روسو، (منظر الثورة الفرنسية عام 1789م) صاحب كتاب (العقد الاجتماعي) و(اعترافاتي)، بل هو ابن عمه وكان يعمل الأول قنصل فرنسا العام في الشرق، ثم جاء بعده الإمبراطور نابليون فعزله بعد ما استولى على مصر.
الشاهد.. يقول روسو عن السعوديين مع تحفظي على بعض ما قال: «يسود الانسجام التام بين الوهابيين دوماً وتربطهم علاقات مخلصة، ومن هذين العاملين يستمدون السعادة والقوة. إنهم يتصفون بالصرامة والقسوة، متعودون على التعب والحرمان بكل أشكاله. يلبسون الزي العربي المعروف ويحملون السلاح كعادة العرب. لهم قرى عديدة، وقطعان لا تعد من الماشية، ويمارسون بعض المهن، يتاجرون في مختلف المدن التركية ولكن تحت أسماء مستعارة. ويضربون نقوداً باسم أميرهم في أكثر من مكان».
ويقول أيضا: «إنهم متمسكون بمؤسساتهم تمسكاً كلياً لا يقبل الطعن. وينبذون كل ما يمت إلى الأجانب بشيء، بحيث يمكن أن يقال عنهم: إن أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم لا غاية لها إلا التمسك بعقيدتهم ونشرها، ويتمنون لو أن كل أقطار العالم اعتنقت هذه العقيدة».
(3)
عرض السعوديون على إيران بعد انتصارها في جولة العراق بإدخالها قوة صاعدة في ترتيبات الأمن الإقليمي، حينها صرح السياسي الجبل الأمير سعود الفيصل بقوله: «إن الدول التي لها دور قيادي في المنطقة ينبغي أن تأخذ في اعتبارها مصالح الدول الأخرى الاستراتيجية»، كما وجه خطابه للبعير الهائج آنذاك وفي واشنطن بقوله: «حافظنا على وحدة العراق واستقراره ثم سلمتموه على طبق من ذهب للإيرانيين»، كان الغضب في كل مكان وكل يدفع بنا للمواجهة وعليك إما تكون أحمق فتكون طائفياً أو أهوج فتكون أممياً أو حجراً على رقعة الشطرنج كالقوي الصغير.. غاب عن هؤلاء جميعاً أن السعوديين هم صانعو قواعد اللعبة في منطقتنا، فلسنا أقوياء بالمطلق ولكننا الأقوى في جزيرة العرب وأكبر المؤثرين في العالم الإسلامي ونعرف الممكن وغير الممكن وهنا تتجلى الحكمة فلا استكانة ولا غرور.. إذا هذا هو تعريف الحكمة، لا إستكانة ولا غرور، تركيبة لا يمكن تصنيعها إلا لمن ملك السنة والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد.
(4)
حكمتنا تسقط الرصاص.. تابع ماذا يحدث حولك استراتيجيا ودع عنك التفاصيل والشد والجذب:
1) انتصرت العقلانية في العراق ولبنان وتعززت الأكثرية الراغبة في الأمن والاستقرار والتعايش والازدهار وزار زعماء الأول الرياض استلهاماً للحكمة.
2) انهزمت القاعدة في العراق وشمال لبنان وتكاد تنقرض في السعودية ورأسها وفلولها مطاردة أمنياً واقتصادياً، والعمل جار على قدم وساق لاجتثاث فكرها في الجزيرة العربية.
3) قضى على التمرد الحوثي في اليمن، وفككت خلايا التمرد في عديد من الدول الخليجية والعربية، وألجم كبار الممولين لها من دول شقيقة وزوايا سوداء، واليمن في طريقه للاستقرار، وقدمنا له مساعدات تنموية للشعب المؤمن الحكيم بثلاثة مليارات ريال.
4) سورية بدأت في استرداد عافيتها فعادت لعمقها العربي ولتأثيرها بهدوء في محيطها الحيوي، وسيزور الرئيس الأسد مصر قريباً، وطبعت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي عبر فرنسا، وسيعود السفير الأمريكي إلى دمشق وهي منخرطة في مفاوضات متقدمة عبر تركيا لعودة الجولان المحتل والمتفق عليه كبير جداً.
5) جلس الصينيون والأمريكان وليس بعيداً عن الحكمة فأنجز السودان انتخاباته التاريخية وسيطوي ملف دارفور والاتهام الظالم بالإبادة البشرية وبهدوء دون عنتريات، وسيصوت الجنوبيون لحكم ذاتي رافضين الانفصال عن السودان. في حين تولت حكومة شرعية للحكم في الصومال.
6) إسرائيل مطوقة بالحصار السياسي الأمريكي ومن المؤسسة العسكرية الأمريكية التي تعد أقوى لوبي وكذلك الاتحاد الأوروبي والدولي، ولأول مرة في تاريخها تشعر بالعجز السياسي فانقلب السحر على الساحر، وهذه المرة أشد لأنها لم تستمع لصوت الحكمة السعودية المتمثلة في مبادرتها للسلام 2004م، فأصاب ما أصاب حليفها بالسر شرقاً وقيام دولة فلسطينية مستقلة خلال سنتين ـ بإذن الله.
7) انخرطت موسكو وواشنطن في صفقة استراتيجية ومنها خفض الترسانة النووية المتبادل وتجميد مشروع الدرع الصاروخي في بولندا وتعزيز السلم والمشاركة السياسية في دول جنوب روسيا والاعتراف المتبادل بالنفوذ وإيقاف الدعم العسكري والتصدي لإيران، مما يعزز السلم الإقليمي والدولي.
8) سوف تصدر قريباً عقوبات اقتصادية نوعية ومؤلمة للحرس الثوري (الجناح العسكري) لإيران وهي تأتي في سياق انقسام داخلي حاد بين (الثورة التصحيحية الخضراء) فزادت معدلات الفقر والبطالة والفساد وأصبحت دوحة لمحاربة الحريات وحقوق الإنسان التي جاءت الثورة قبل 30 سنة من أجلها، وقد قتل من خيرة قادة الرأي أكثر من 450 مفكرا وناشطا، وقد فقدت إيران زمام المبادرة وتراجعت لتدافع عن نفسها بأوراق ضعيفة لن تصمد طويلاً على الرغم من الصراخ المرتفع. ومن المرجح قيام حليف الأمس السري (إسرائيل) بالانقلاب والدخول في صدام مسلح ليستعيد فيها هيبته، فالتطرف هكذا ديدنه يأكل بعضه بعضاً عندما يضعف.
9) تقوم تركيا بدور استراتيجي لإحداث توازن إضافي في الشرق الأوسط، والعثمانية الجديدة ستحل الفراغ الذي أحدثه غياب العراق القومي، فيما قام إعلام إسلامي عربي شرس وغاضب من التغول الفارسي الصفوي حسبما يذكرون.
10) تعززت الروح الوطنية وانضوت تحت مظلة الحوار الهادئ.. الغاضب والمخالف وتمت المراجعات في الخليج العربي ففوت العقلاء الفرصة على من ينفخ في النار فأطفئت مياه الحكمة الماضي المتوتر قال تعالى: «كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين» سورة المائدة، وعجلة التنمية والبناء والتطوير والتحديث والإصلاح هي الانتصار الحقيقي، فالحراك النشط على جميع الأصعدة في منافسة شريفة وحثيثة نحو الأفضل في التربية والتعليم والتدريب والقضاء وعنوانها البارز الحكيم الكبير «الملك» يريد ذلك، وقد قيل من يريد أن يحصد في سنة فعليه أن يزرع قمحاً، ومن أراد أن يحصد في ثماني سنوات فعليه أن يزرع زيتوناً، ومن أراد أن يحصد في 30 سنة فعليه أن يزرع علماً في شعب.
(5)
إننا لا نرى أن الحكمة في السنة أو التاريخ أو الجغرافيا أو الاقتصاد حكر علينا.. بل الحكمة مبذولة من العقلاء، وقد قال المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» رواه الترمذي وابن ماجه، والحكمة خرجت من جزيرة العرب وتعود إليه.
أيها السعوديون.. كثير من الحكمة وقليل من السيف الأجرب أسقط الرصاص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي