الجودة غاية أم هدف؟

أتذكر عندما بدأت العمل قبل14 عاما في مصنع محلي تابع لإحدى الشركات العالمية تصادف مع بداية عملي في المصنع وجود تدقيق جودة تقوم به الشركة الأمريكية الأم على المصنع المحلي، حيث كان موظفو خطوط الإنتاج يلبسون قمصاناً طبع عليها شعار «الجودة غايتنا» وكان أغلب ما أعرفه عن الجودة في ذلك الوقت هو ما تعلمته في بعض المواد خلال دراستي الهندسية. وجدت نفسي في المصنع محاطاً بالشعارات الرنانة عن الجودة. وبعد انتقالي من المجال الصناعي إلى المجال الخدمي وزيادة عملي في «صناعة الجودة» تذكرت تلك العبارة وبدأت أسأل نفسي هذا السؤال: هل الجودة غاية أم هدف؟ فعندما تكون الجودة في المنشأة هدفاً فهي أحد الأهداف التي يعمل على تحقيقها منسوبو المنشأة لكي تصل هذه المنشأة إلى زيادة القيمة المستفادة للمستفيدين، ولكن عندما تصبح الجودة غاية فهي بذلك تكون أحد أهداف وجود المنشأة وتصبح لها حياة داخل المنشأة، وقد لا تصب في مصلحة المنشأة بل وتضرها.
اهتممت أكثر بهذا السؤال بعد نقاش بيني وبين طلاب دبلوم الجودة الذي تقدمه إحدى مؤسسات القطاع الخاص، حيث طلب مني تدريب الطلاب على إحدى مواد هذا الدبلوم وهي مبادئ الجودة. للتأكد من مدى فهمهم سألت الطلاب لماذا يأخذون دبلوم الجودة؟ فأجابوني بأن الهدف هو تعلم الجودة بشكل أكبر، وعندما سألتهم لماذا؟ قالوا لكي نرفع مستوى الجودة في منشآتنا، وسألتهم مرة أخرى لماذا؟ فأجابوا بأهمية تحسين جودة المنتجات والخدمات وأن رغبتهم هي العمل في مجال الجودة في منشآتهم. عند ذلك صدمتهم حينما قلت لهم بأنكم تضيعون أوقاتكم, فأنتم لا تتعلمون الجودة لأجل الجودة. والوضع المثالي لأي منشأة هي عدم وجود إدارة جودة مختصة تقوم بتدقيق وتأكيد الجودة بل الوضع الأمثل هو بناء المتطلبات في ثقافة وإجراءات عمل المنشأة، حيث تدعم منتجات وخدمات ذات جودة عالية دون الحاجة إلى موظفي إدارة الجودة. ولكن جوابي هذا لم يرق لهم وكان بمثابة الصاعقة فهم يرون أنفسهم يعملون في مجال الجودة، وأنا أقول لهم إنكم تعملون في مجال عمل منشأتكم والجودة هي إحدى أدوات تحسين العمل وليس غاية في حد ذاتها. وبعد هذه المادة لم تتم دعوتي للتدريس في هذا الدبلوم مرة أخرى لأنه من الواضح أن ما أقوله لا يتماشى مع الفهم المتعارف عليه عن الجودة لدى البعض.
الجودة هي فلسفة إدارية لها شقان. الشق الأول هو الثقافة وهي زرع مبادئ معينة لدى العاملين تهيئ الجو لإنتاج خدمات/ منتجات ذات جودة عالية. والشق الآخر هو الأدوات وهي أنظمة إدارية مثل الآيزو وجوائز الجودة والعصف الذهني والأساليب الإحصائية التي تساعدنا على تأطير العمل ومعالجة المشكلات. بناء و تغيير الثقافة هي عملية طويلة المدى تحتاج إلى دعم الإدارة العليا واستمرارية الدعم لفترات طويلة لكي تؤتي أكلها. أدوات الجودة هي تسهيلات وعمليات واضحة يمكن تطبيقها على جميع المستويات في المنشأة. ولصعوبة التعامل مع ثقافة المنشأة فإن مختصي الجودة يركزون على الأدوات والمنهجيات التي تصبح غاية في حد ذاتها مثل الحصول على شهادة الآيزو. وعندما تصبح الجودة غاية في حد ذاتها فإن تحقيقها ليس صعب المنال على المنشأة. ولكن يبقى السؤال: ماذا استفادت المنشأة من الجودة؟ وهل كانت الاستفادة بقدر الاستثمار؟ أنا أرى أن هدف وغاية أية منشأة ليس الجودة أو السلامة أو زيادة المبيعات أو خدمة العملاء ولكن هي القيمة المضافة التي تنتجها المنشأة للمستفيدين الرئيسيين منها، وهؤلاء المستفيدون هم ملاك المنشأة وموظفوها, عملاء المنشأة وممولوها, الموردون والقطاعات الحكومية ذات العلاقة. وغاية كل منشأة هي تحقيق القيمة المثلى لكل هؤلاء فإذا كان الملاك يرغبون في زيادة الربحية فإن العملاء يريدون خدمات/ منتجات مميزة بأسعار مقبولة والموظفون يرغبون في بيئة عمل عادلة تحثهم على الإبداع. ويسري ذلك على جميع المستفيدين الرئيسين الآخرين. ويبقى هدف المنشأة الرئيس هو السعي الحثيث نحو المعادلة الصعبة وهي إرضاء المستفيدين الرئيسين كافة في الوقت نفسه. وعندما نتحدث على هذا المستوى فإن الجودة لا تصبح غاية في حد ذاتها ولكنها إحدى الفلسفات والأدوات الإدارية التي يستفيد منها المديرون لزيادة القيمة المضافة للمستفيدين الرئيسين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي