عن الهند .. مقاتلة طواحين الهواء

حلم الهند في أن تصبح قوة عظمى يمكن تقصيه بسهولة إلى عصر رئيس وزرائها الأول جواهر لال نهرو. لكن رغم غزارة علم نهرو ورغم نظرته العالمية اللبرالية وما يتمتع به من كرم أخلاق، فإن محاولته لرفع الهند إلى الساحة الدولية كانت عبثية مثل جهود دون كيشوت في محاربة طواحين الهواء. كان يأمل أن بإمكان الإقناع الأخلاقي والإيمان الداخلي بقوة المؤسسات متعددة الأطراف المساعدة في إطلاق نظام عالمي جديد.
هذا النظام العالمي، الذي كان نهرو من أكبر الدعاة له بصفته أحد أركان حركة عدم الانحياز، كان من شأنه نزع الشرعية عن الاستعمار، وتقييد استخدام القوة في السياسة الدولية، وتقليص التباين الكبير على المستوى العالمي، وتيسير الطريق نحو نزع الأسلحة النووية بشكل شامل. لا خلاف في أن هذه القضايا جديرة بالثناء والإعجاب. لكن من الممكن أن نجادل بأن نهجه المعياري والأخلاقي نحو هذه القضايا لم يحقق أي تقدم يذكر. القوى الأوروبية تخلصت من مستعمراتها، وكان سبب ذلك في الغالب هو أنه أصبح من غير الممكن مادياً الاحتفاظ بها، وليس كنتيجة لأية اعتبارات أخلاقية حول ظلم المشروع الاستعماري.
التقدم في المجالات الأخرى التي حددها نهرو وحركة عدم الانحياز كان في أحسن أحواله متقطعاً. لكن المهم هنا هو أن من الصعب البرهنة على أن هذه التطورات نشأت من الضغط الأخلاقي لجماعة عدم الانحياز، وإنما كان ذلك نتيجة للمصلحة الذاتية للدول المعنية. على سبيل المثال، من الصعب الاعتقاد بأن القوى العظمى دخلت في المساعي الثنائية للسيطرة على سباق التسلح بسبب الاعتبارات الأخلاقية التي تنادي بها حركة عدم الانحياز وليس بسبب الجوانب العملية الرامية إلى تثبيت الاستقرار في الردع النووي.
على أية حال فإن التزام نهرو بتقييد استخدام القوة عانى ضربة قوية في عام 1962 حين دخلت الهند في نزاع حدودي كبير مع الصين. في آخر أيامه كان نهرو كسير النفس ومفطور القلب، وشاهد بداية التوسع العجيب للقدرات العسكرية الهندية. وفي أعقاب ذهابه في عام 1964، كان خلفاؤه يفتقرون إلى رؤية بديلة للنظام العالمي. نتيجة لذلك استمروا في تكرار مقولات نهرو باللفظ في حين كانوا يتعاملون ببطء مع الحقائق القاسية للنظام العالمي القائم.
لكنهم لم يكونوا قانعين فقط بتبني المثل التي كان ينادي بها نهرو في ساحات السياسة الخارجية والسياسة الأمنية. بدلاً من ذلك أخفقوا بصورة كبيرة في تغيير مجرى التطور الاقتصادي الذي وضع أسسه نهرو وحزب المؤتمر فور حصول الهند على استقلالها. نتيجة لذلك كانت الهند لا تزال تؤمن بأنموذج يزداد عقماً باستمرار قائم على استبدال الواردات بالتصنيع، وهو أنموذج لم يسهم في النمو الاقتصادي بصورة كبيرة ولم يؤد إلى تقليص كبير في الفقر المطلق.
بفضل الفجوة المذهلة بين المثل العليا التي كان ينادي بها نهرو في الساحة الدولية وظروفها المحلية البائسة والتعيسة، فإن الهند تجد نفسها مهمَّشة بصورة مطردة في الشؤون العالمية. مع ذلك فإن قيادتها السياسية لم تتوقف عن محاربة طواحين الهواء. على سبيل المثال، في لحظة كان من الواضح أنها تدل بصورة خاصة على عدم التبصر اختارت الهند أن تتصدر الدعوة إلى نظام اقتصادي دولي جديد في أواسط السبعينيات. المثير للمفارقة أن مبادرة النظام الدولي الجديد كان من شأنها تقويض نظام العملات القائم على اتفاقية بريتون وودز، وزاد من سوء الأوضاع بالنسبة للغالبية العظمى من بلدان العالم النامية، ناهيك عن الهند نفسها.
ما زاد في تعقيد الأمور هو أن الزعامة الهندية، خصوصاً في ظل رئيسة الوزراء إنديرا غاندي، وهي ابنة جواهر لال نهرو، أنشأت عداوة متبادلة وعصبية ضد الولايات المتحدة. كان هناك خلط دائم بين المظالم الفعلية والوهمية. وليس من قبيل المفاجأة أن العلاقات الهندية ـ الأمريكية أصبحت واهية. ما يؤكد ذلك هو أنه مع نهاية الحرب الباردة، وبفضل الدبلوماسية العقيمة، والافتقار إلى القوة المادية، وبسبب الفقر البائس، أصبحت الهند لاعباً مهملاً على الساحة العالمية.
أخيراً مع انهيار الاتحاد السوفياتي وما رافق ذلك من انتهاء الحرب الباردة قام صانعوا السياسة الهنود بإجراء مراجعة أساسية لسياستها الخارجية والاقتصادية. في الداخل تخلوا أخيراً عن سياسة الدهاليز المعقدة، المليئة بالأنظمة والحصص المقررة والضوابط، والتي كان من شأنها تقريباً خنق النمو الاقتصادي. وفي الخارج أنهوا السياسة الانفعالية المناهضة للولايات المتحدة، وسعوا إلى تحسين العلاقات مع الصين، ومدوا أيديهم إلى الدول النشطة اقتصادياً في جنوب شرق آسيا. أخيراً، بعد إجراء قدر كبير من النقاش الداخلي، عبرت الهند النهر النووي في أيار (مايو) 1998، وأجرت سلسلة من الاختبارات على الأسلحة النووية. وعلى الرغم من الاعتراضات والضغوط الدولية التي لا يستهان بها، رفض السياسيون الهنود الرضوخ لها واستمروا في إنشاء ترسانة نووية محدودة.
كانت نتائج هذه الخيارات المحلية والخارجية عجيبة تماماً. أدى النمو الاقتصادي للهند إلى تقليص عجيب في مستوى الفقر في المناطق الريفية وفي المدن. على سبيل المثال، بين عامي 2004 و2008 قارب النمو الاقتصادي على مستوى 7 في المائة. وفقاً لبعض التقديرات فإن نحو 260 مليون هندي هم الآن جزء من طبقة وسطى جديدة، في حين أن مجموعة أخرى من الهنود يبلغ عددها 60 مليون شخص تتمتع بمعدل دخل فردي يعادل متوسط ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. اعتناق الهند المحدود لاقتصاد السوق لم يكن من شأنه فقط تعزيز النمو وتقليص الفقر، وإنما أدى كذلك إلى تمكين الشركات الهندية من أن تصبح من اللاعبين المهمين في السوق العالمية. على سبيل المثال فإن المجموعة الهندية “تاتا” تمتلك الآن شركة صناعة السيارات التي تصنع سيارة جاكوار وسيارة لاند روفر، والتي كانت تعد من أكبر رموز الصناعة البريطانية.
التحول في السياسة الخارجية الهندية وضع الهند كذلك في مكان أقرب بكثير من ذي قبل لطموحاتها لاحتلال مكانة الدولة العظمى. رغم الاختلافات المهمة مع إدارة الرئيس أوباما حول مسائل الأمن الإقليمي في جنوب آسيا والعقوبات الدولية المحتملة على إيران، إلا أن الهند تتمتع الآن بدرجة غير مسبوقة من التعاون مع الولايات المتحدة. كذلك أجرت عدداً من النقاشات المهمة مع الاتحاد الأوروبي، وأنشأت علاقة قابلة للاستمرار مع اليابان، ولديها مكانة جديدة ضمن جنوب شرق آسيا. إضافة إلى ذلك، تستطيع خياراتها تشكيل ثلاثة أنظمة عالمية مهمة على الأقل، وهي منع انتشار الأسلحة النووية، والتجارة، والتغيرات المناخية.
بطبيعة الحال يظل السؤال المهم هو إذا ما كان بإمكان الهند الاستمرار في اتخاذ قرارات حكيمة وأن تظل عينها مركزة على مسارها الذي رسمته لنفسها. على الساحة المحلية، تحتاج الهند إلى استدامة عملية التحرير الاقتصادي، وتحسين كفاءة مؤسساتها العامة، وضمان ألا تظل منافع التنمية الاقتصادية محصورة على قلة مختارة. في الساحة الخارجية، ستحتاج الهند إلى ما أطلق عليه رئيس الوزراء سينج تعبير “المصلحة الذاتية المستنيرة”. هذا الجمع بين الاستراتيجيتين، إذا تمسكت به الهند بعناية، يمكن في الواقع أن يقرب الهند إلى حلمها الذي طال عليه الأمد في تحقيق مكانة الدولة العظمى.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: Opinionasia

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي