خطورة تبسيط فكرة استيراد القمح
يقال - ببساطة - لنتوقف عن زراعة القمح ولنستورده, لأن الاستيراد أقل تكلفة مالية وأحفظ للماء. ويستمر القول إن فكرة الأمن الغذائي فكرة سطحية، لا يمكن تحقيقها لأننا نستورد أشياء كثيرة، من بينها مكائن المياه والأنابيب وقطع الغيار وغيرها, وبالتالي لا يمكن أن نكون بمعزل عن أي خطر قد يأتي من خارج الحدود، وعليه فمن المغالطة الاستمرار في زراعة القمح بحجة توفير الأمن الغذائي. فهل الموضوع بهذه البساطة؟ أشك. والسبب أن هناك فارقاً هائلا بين أن تستورد منتجا نهائيا كالقمح، وأن تستورد عنصرا من ضمن عناصر تدخل في عملية الإنتاج، كالأنابيب المستخدمة في حفر الآبار، مثلا, فوجود عملية الإنتاج المتكاملة حتى مع اختلال ـ محتمل - في بعض أجزائها لا يتساوى على الإطلاق مع انعدام عملية الإنتاج بشكل تام. حتى تتضح الصورة، لنفترض أبسط السيناريوهات الممكنة.
سيناريو استيراد قمح دون وجود زراعة قمح سعودية على الإطلاق ـ وهذا ما سيحدث عام 2016: لنفترض أننا سنستورد من كندا، كما حدث في العام الماضي. نحن هنا أمام النتيجة النهائية مباشرة، ننتظر إلى تاريخ الحصاد، في نيسان (أبريل) من كل عام، ونتوقع أننا سنستورد الكمية التي تعاقدنا عليها, لكن لو حدث ظرف غير اعتيادي ـ لا أتحدث هنا عن الحروب والزلازل والبراكين - بل أتحدث عن ظروف أقل حدة كعاصفة ثلجية تضرب حقول القمح الكندي وتؤدي إلى نقص في الكميات أو تؤدي إلى شح في الأسواق الكندية المحلية، هل تتوقعون أن كندا ستلتزم بتوفير الكميات التي تعاقدنا معها عليه وتهمل احتياجاتها المحلية لسواد عيوننا؟ حلم ساذج! والشواهد العالمية كثيرة, فمثلا، بسبب نقص في المخزون المحلي قامت الهند وتايلاند بحظر تصدير الأرز, ولا تزال الهند تفرض هذا الحظر على جميع أنواع الأرز ـ باستثناء البسمتي - في تطاحن لا منتهي مع مصدري ومستوردي الأرز في العالم. كذلك، بسبب موجة جفاف غير اعتيادية فرضت أستراليا والهند حظرا جزئيا على تصدير الشعير لأن الجفاف نتج عنه نقص في الإنتاج السنوي، وكذلك، بسبب ارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية، فرضت الأرجنتين حظرا على تصدير اللحوم، وفرضت فنزويلا حظرا على تصدير 80 منتجا غذائيا من بينها اللحوم والحليب في محاولة لتخفيض أسعار بعض السلع في الأسواق المحلية، وفيتنام لا تزال تصر على قيود متشددة في تصدير الأرز، وكازاخستان أوقفت مبيعات القمح.
هذه مجرد لمحة خاطفة عما يجري في الأسواق العالمية الغذائية المتعلقة بحظر التصدير على منتجات غذائية بأسباب لا تتعلق بكوارث أو أحداث استثنائية، بل مجرد ارتفاع في الأسعار أو نقص في المخزون أو ربما حملة انتخابية يراد جمع أصوات لها أو إضراب عمال زراعيين أو موانئ، أو غيرها من الأسباب التي في نظر تلك الدول تكفي لتبرير حظر تصدير منتج محدد لتفي بمتطلبات محلية صرفة. وحتى التحولات الأخيرة في صناعة الغذاء مبرر للتفكير مليا في موضوع الأمن الغذائي، فوفقا لتقرير من منظمة نفط العالم فإنه ''يجب إدراك أن وصولنا إلى كارثة غذائية أصبح وشيكا بسبب تحول المزارعين إلى إنتاج وقود حيوي من المحاصيل الزراعية التي كانت عادة تؤكل والآن تستهلك كوقود'' (2008). كما أن وباء زراعيا اجتاج إفريقيا وآسيا ووصل إلى إيران عام 2007 دق نواقيس الخطر في المنظمات الزراعية وأنذر بحدوث مجاعة عالمية (مجلة العلميين الجديدة، العدد 2598، أبريل 2007). تخيلوا هذا يحدث، ونحن على الموانئ ننتظر وصول القمح الذي تعاقدنا على شرائه ننتظر وصول شحنة القمح الكندي أو الكازاخستاني أو الهندي؟ ستكون حالة طوارئ سعودية وستعمل فرق الإنقاذ ليلا ونهارا لسد النقص عبر منافذ أخرى وبسرعة عالية لسد النقص الجوهري في أهم سلعة غذائية، طبعا بأسعار ستكون مرتفعة وربما بجودة أقل لمعرفة التجار بشدة الاحتياج فيمكنهم لي ذراعنا كما يرغبون. إن الاستيراد في الأوقات العادية لا يشكل خطرا، لكن من يضمن أن تكون الأوقات كلها ''عادية''. أما الاستيراد في الأوقات غير العادية فقد يكون مستحيلا، إن إيقاف التصدير لحين انفراج الأزمات المحلية أمر مسموح به دوليا كما نصت عليه المادة 11 من اتفاقية الجات، في منظمة التجارة العالمية، التي منحت الدول: ''الحق في فرض الحظر على الصادرات بقصد منع أو التخفيف من وطأة أوجه النقص الحرج أو الحاد في المواد الغذائية أو المنتجات الأخرى التي تعد ضرورية''. نعم، لن نموت جوعا، ويمكننا إنشاء مخازن في كل مدينة لخزن الحبوب والأغذية الرئيسة، لكن لماذا نضع أنفسنا في ذلك الموقف، ونحن نملك الإمكانات لأن نتحاشاه؟ بل حقيقة لقد تحاشيناه عشرات السنوات واليوم نرفض تحاشيه بحجج غير مقنعة. اليوم نحن مثل من يمتنع عن شراء بوليصة التأمين الغذائية بحجة أنه لا يمكن تحاشي الحوادث! في هذا السيناريو، مجازفتنا مرتفعة المخاطر بسبب عدم وجود عملية إنتاج محلية على الإطلاق.
السيناريو الثاني: سيناريو قطع الغيار
يقول هذا السيناريو إن زراعة القمح تشمل شراء قطع غيار ومكائن وأدوات نستوردها من الخارج, وبالتالي التعرض للأزمات الخارجية أمر لا مفر منه, ويستحيل بالتالي أن نزرع القمح دون أن نكون عرضة للتأثيرات الخارجية، فماذا لو امتنعت دولة ما عن تصدير الأنابيب الخاصة بنقل المياه أو تصدير قطع غيار الحراثات أو الحصادات؟ النتيجة ستكون واحدة، فستتوقف المزارع وسنضطر إلى الشراء الخارجي، وعليه فلا يمكن تحقيق شيء اسمه أمن غذائي. هذا السيناريو ـ أولا - يدعو إلى الامتناع عن إنتاج أي شيء بل يرسخ قاعدة الاستيراد في كل شيء ويوطن فكرة الاستهلاك الخارجي لكل شيء لأنه - حقيقة - لا يوجد منتج وحيد اليوم بالإمكان عزله 100 في المائة عن المؤثرات الخارجية. ثانيا، تتجاهل هذه الفكرة عدة عناصر مهمة في الموضوع, فاختلال عنصر في عملية الإنتاج لا يتماثل في الوزن مع انعدام عملية الإنتاج كاملة. فانعدام وجود قطع غيار، لا يعني انتهاء الموضوع. فالاحتياج إلى قطع الغيار لن يكون شاملا لكل المزارعين، ولن يكون في كل الأوقات، ولن يكون محتكرا من دول تعد على الأصابع. وكل شيء يمكن تصنيعه في الخارج لا يمكن أن يكون مستحيلا تصنيعه في الداخل- أو في الصين مثلا؛ وعليه امتناع دولة عن تصدير قطع غيار الحصادات ربما يربك موسم الحصاد في بعض المزارع لكنه لا يعني مجاعة كارثية، فالبدائل ستكون متعددة للمزارع المتورطة. هذه جزئية، الجزئية الأخرى، أن عملية الإنتاج مستمرة تحت غطاء محلي وتحت الظروف المحلية، دون مؤثرات خارجية غير مرتبطة بواقعنا المحلي، فستبقى مزارع وادي الدواسر وحرض والجوف في منأى عن متغيرات عالمية كثيرة، فسواء ضربت الثلوج كندا أو جفت بحيرات أستراليا، أو تعطلت الملاحة البحرية على سواحل الصين أو فرنسا. هذه المظلة المحلية تشكل غطاء مهما في تجنيب سلعة استراتيجية متغيرات عالمية/محلية مؤثرة في تغذية شعب بأكمله؛ هل نريد أن نبقى أسرى لرياح بركانية في شمال أوروبا لحين انقشاعها حتى نأكل الخبز؟ هنا لدينا عملية إنتاج من المحتمل أن تتعثر بسبب عوامل خارجية لكن المخاطرة والمجازفة هنا محدودة في بعض العناصر وليس في عملية الإنتاج برمتها.
لدينا خياران: إما الترقب على سواحلنا انتظارا لسفينة قمح، مبتهلين وداعين لأهالي وأجواء أستراليا وكندا، أو زراعته في وادي الدواسر والجوف وحرض بطرق علمية رصينة وفي حدود احتياجنا وفقا لملامح استراتيجية واضحة، وتحمل أشواك ربما تصادفنا وتحقيق أمن غذائي بشكل نسبي، فالأمن المطلق في أي شيء مستحيل؟ أنتهي مع كلمة لرئيس الرأسمالية، الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون في 2008 في الأمم المتحدة بمناسبة يوم الغذاء، انتقد فيها سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الرامية إلى خفض الإعانات المقدمة إلى المزارعين بقوله : ''الغذاء ليس سلعة كبقية السلع، إنه ليس جهاز تلفزيون ملون. يجب مراجعة جميع السياسات الغذائية لتعظيم فكرة الأمن الغذائي. إنه جنون أن نفكر في أنه يمكن للدول أن تتطور دون أن تكون لها قدرة على إطعام شعوبها''.