كيف يمكن «ضبط» الإعلام الجديد؟ (1)
رددت وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة مصطلح ''تقنين الإنترنت''، للدلالة على رغبة قطاعات عدة في العالم العربي في إيجاد وسائل تحكم يمكن بها ضبط مواقع الإنترنت بعدما ارتكب بعضها تجاوزات للمحظورات الدينية والاجتماعية والثقافية. والإنترنت كما هو معلوم يعيش حالة خاصة خارج القيود والضوابط التي تحدد حركة الإعلام ونشر المعلومات في العالم العربي، وهذا له إيجابياته الكثيرة طبعا، ولكن سلبياته كثيرة كذلك وتتطلب رؤية ما لعلاجها، وهو ما سأسعى للحديث عنه في سلسلة مقالات تبدأ اليوم.
إن الحرية بلا ضوابط كانت دائما مصدرا للمشكلات حتى في الثقافة الغربية التي تشجع فلسفتها الأصلية على الحرية الفردية وعلى حرية المعلومات المطلقة، رغم أن كتب الفلسفة الغربية تعتبرها ضرورة لإيجاد سوق حر للأفكار، تتصادم فيه هذه الأفكار، بحيث تبقى الفكرة الصالحة وتموت الفكرة السيئة حسبما يقرره مجموع الأفراد في أمة ما. رغم هذا التأكيد الفلسفي على الحرية المطلقة، فإن التجربة أثبتت للغربيين أن هذه الفلسفة تعاني نقاط ضعف ما، وذلك لأنه من الواضح أن هناك أفراداً يستغلون هذه الحرية بشكل يسهم في تدمير القيم، والتأثير فى مصالح غيرهم، والإساءة للأمة ومستقبلها. ووضع الغربيون أفكارا عديدة لحل المشكلة شملت تعديلات في أصل النظرية، واستخدام البيئة القانونية لإصدار تشريعات منظمة لحرية نشر المعلومات حتى لو لم يكن ''حماة النظرية الليبرالية'' راضين عن تلك القوانين.
ولعل أهم التعديلات التي نشأت على النظرية الغربية الليبرالية هو ما يسمى نظرية ''المسؤولية الاجتماعية'' وهي النظرية التي مثلت نقلة هائلة في العلاقة بين الحكومة الأمريكية وبين الإعلام من جهة، ونقلة هائلة كذلك في الرؤية الفلسفية نحو الإعلام. ورغم أن النظرية مطبقة فقط على بعض المستويات من الناحية القانونية، إلا أنها تمثل مصطلحا شائعا في نقد الإعلام الذي صار مطلوبا منه أن يقوم بكثير من ''الرقابة الذاتية'' بناء على تحمله مسؤوليته الاجتماعية والوطنية، وتحول أي اتهام لوسيلة الإعلام بأنها تخلت عن تلك المسؤولية مثارا لكثير من الإزعاج والتأثير السلبي، سواء جاء الاتهام من نقاد أو وسائل إعلام أخرى أو منظمات حقوق الإنسان والمؤسسات المدنية والدينية، أو من المؤسسات الحكومية والعسكرية.
هذه النظرية هي ما أرغب في اقتراحه كإطار نظري وفكري لكيفية التعامل مع الحرية الواسعة والمطلقة وغير المقيدة للإنترنت. لقد جاءت ثورة المعلومات ونمت بسرعة هائلة سببت – كما قال رامسفيلد مرة عندما ظهرت صور التعذيب في سجن أبو غريب - ''تطايرا للمعلومات والصور'' في كل مكان حتى لا يمكنك أن تعرف من أين تأتي وإلى أين تذهب وكيف يمكنك التحكم فيها. هذه حقيقة لا يمكن المجادلة فيها، ولا توجد دولة في العالم استطاعت التحكم في حركة المعلومات مهما بلغ جبروتها وبطشها واهتمامها بمنع المعلومة التي لا ترغب تلك الدولة فيها، كما فشلت كذلك الدول التي أرادت التحكم في المعلومات لحماية مصالح الأمة.
إن منع مواقع معينة من الظهور لا يعني منع المعلومات من الظهور فالشخص الذي يريد توصيل معلومة ممنوعة، يستطيع في النهاية إرسالها بالبريد الإلكتروني أو عرضها على المواقع الأمريكية القائمة على محتوى الجمهور مثل موقعي ''يوتيوب'' و''فيسبوك'' وغيرهما أو إرسالها عبر أجهزة الموبايل، وهو يمكنه ذلك دون إظهار شخصيته الحقيقية إذا كان ماهرا في التعامل مع وسائل التكنولوجيا.
ليس ذلك فحسب بل إن تطبيق أنظمة متشددة في منع المعلومات السلبية وغير المرغوبة أو المخالفة لقيم المجتمع قد يعني لجوء الأشخاص المنتجين لهذه المعلومات إلى المواقع الأمريكية الكبرى والذي سيعني في النهاية مزيداً من الانتشار والتميز لهذه المواقع حيث يمارس الجميع أنشطتهم بعيدا عن عين القانون. من ناحية أخرى، فإن حظر هذه المواقع ما زال يعني الدخول في حساسيات مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الشركات الكبرى مثل ''جوجل'' (والتي تملك موقع ''يوتيوب'')، كما أنها تمثل إحباطا نفسيا هائلا لجمهور الشباب الذين يعتبرون هذه المواقع جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
وللحديث بقية..