سنغافورة تخطط لمستقبلها الاقتصادي

قمت بجولة في بعض دول جنوب شرق آسيا في النصف الأول من الشهر الجاري شملت سنغافورة. ولفت نظري محاضرة لنائب رئيس الوزراء السنغافوري تو تشي هين في جامعة سنغافورة الوطنية شدد فيها على أهمية المحافظة على حيوية بلاده في إطار تبني خمس ركائز.
الركيزة الأولى هي أن تكون سنغافورة مدينة عالمية نابضة بالحياة والنشاط. أما الركيزة الثاني فعبارة عن وجود ثقافة تحفز على اكتساب التعليم والتدريب. تتمثل الركيزة الثالثة في التركيز على الإبداع وتبني أفكار جديدة. كما تشجع الركيزة الرابعة على استقطاب كفاءات دولية للمساهمة في تطوير البلاد, وأما الركيزة الخامسة فعبارة عن وجود قيادة سياسية واعية.

مدينة عالمية
حقيقة القول، تعد سنغافورة مدينة حيث تبلغ مساحتها 710 كيلو مترات مربعة, ويأتي ترتيبها في المرتبة رقم 192 دوليا. لكنها تعاني ظاهرة الكثافة السكانية، إذ يعيش فيها قرابة خمسة ملايين نسمة. وعلى هذا الأساس، تحتل سنغافورة المرتبة الثالثة عالميا من حيث الكثافة السكانية نظرا لوجود أكثر من سبعة آلاف فرد للكيلو متر الواحد, أي أفضل فقط من مقاطعة مكاو الصينية وإمارة موناكو.
كما تنبض سنغافورة بالحركة في مختلف الأوقات لأسباب تشمل توافر الأمن, بل تشتهر البلاد بتطبيق الجزاءات بصرامة على المخالفين دون الاكتراث بتدخل الدول الأخرى للدفاع عن رعاياها في حال ارتكابهم أخطاء.
الأمر اللافت هو إصرار المؤسسات الرسمية المختلفة بما فيها الناقلة الوطنية على تقديم الأفضل. ينطبق هذا الأمر على المطار الذي هو أقرب للحديقة منه إلى مرفأ حيوي. كما هناك الطيران السنغافوري، إذ يتميز أسطولها بأنه الأكثر شبابا في الجو حيث لا يزيد عمر الطائرة على خمس سنوات.

اكتساب المعرفة
كما تتميز سنغافورة برغبة رعاياها في اكتساب المعرفة بدليل وجود فروع لجامعات عالمية في البلاد. ويلاحظ وجود منافسة بين المواطنين الذكور منهم والإناث في الحصول على أفضل الوظائف لكن عن طريق نيل الشهادات العليا. يبلغ حجم القوة العاملة أكثر من ثلاثة ملايين يشكلون نحو 62 في المائة من السكان، حيث تعد هذه النسبة مرتفعة دوليا وتكشف عن رغبة المواطنين, وخصوصا الإناث, في الالتحاق بسوق العمل.
وفيما يخص الركيزة الثالثة، تعد سنغافورة مركزا لتبني أفكار جديدة معتمدة على بيوتات الخبرة والمؤسسات البحثية المنتشرة في البلاد. من جملة الأمور، تعد سنغافورة مركزا حيويا لإنتاج آخر صيحات تقنية المعلومات. وهذا ما يدفعنا للإشارة إلى الركيزة الرابعة وتحديدا الرغبة في استقطاب الكفاءات من شتى بقاع العالم عبر توفير مختلف مقومات الحياة العصرية وفي مقدمتها فرصة الحصول على أرقى أنواع التعليم والخدمات الصحية والعيش في بيئة آمنة.
وأخيرا هناك موضوع وجود قيادة سياسية تنظر إلى المستقبل بنظرة ثاقبة مدركة للتحديات, خصوصا المنافسة من الدول الإقليمية على وجه التحديد. حديثا قررت السلطة التنفيذية وعبر ترتيبات مع السلطة التشريعية تعزيز الحياة الليبرالية في البلاد بالنظر إلى انتشار هذه الظاهرة في دول الجوار. على سبيل المثال، تم فتح كازينو لغرض الحد من خروج الأموال من البلاد فضلا عن استقطاب زبائن من الدول المجاورة.

منافسة دولية
وخير دليل على نجاح السياسات المتبعة هو تحقيق سنغافورة نتائج نوعية على بعض المؤشرات الحيوية مثل المرتبة الثالثة بعد سويسرا والولايات المتحدة في تقرير التنافسية الاقتصادية لعام 2009/2010. يستند تقرير التنافسية إلى 12 متغيرا موزعا على ثلاثة محاور رئيسية, هي: أولا الركائز الأساسية مثل البنية التحتية والتعليم والصحة, ثانيا محفزات الكفاءة مثل أداء أسواق المال والجاهزية التقنية, وثالثا التطور والابتكار. إضافة إلى ذلك، حلت سنغافورة في المرتبة الثالثة دوليا بعد كل من نيوزيلندا والدنمارك في تقرير مدركات الفساد لعام 2009. فقد جمعت 9.2 نقطة من أصل عشر نقاط للمقياس, ما يعني وجود ثقافة ترفض جميع أنواع الفساد في المعاملات الرسمية. تشتهر سنغافورة بتقديمها رواتب ومزايا نوعية لمسؤوليها لكن تتعامل مع المدانين في قضايا الفساد بصرامة حيث يشتمل الحكم في الغالب البقاء في السجن لفترة لضمان عدم الاستفادة من الأموال المكتسبة بطرق غير مشروعة.
تعرف منظمة الشفافية الدولية الفساد على أنه سوء استعمال الوظيفة في القطاع العام من أجل تحقيق مكاسب شخصية. كما لا تميز المنظمة بين الفساد الإداري والفساد السياسي أو بين الفساد الصغير والفساد الكبير. تعتقد منظمة الشفافية الدولية أن الإصلاحات الإدارية ضرورية لأي دولة لم تسجل سبع نقاط من عشر نقاط على المقياس.
وأخيرا كشفت لي الزيارة الأخيرة لسنغافورة أن المسؤولين باتوا أقل تشددا مع الزوار فيما يخص رمي العلكة أو الأوراق في الشوارع العامة, واشتهرت البلاد لفترة بأنها شديدة مع الجميع ليس فقط رعاياها بل الزوار في حال عدم معالجتهم بعض المخلفات بالطريقة المثالية, أي وضعها في صناديق القمامة. بدورنا نرى صواب هذا التوجه الجديد لضمان المحافظة على قدرة البلاد على استقطاب الزوار في ظل وجود منافسة قوية من دول الجوار. خصوصا ماليزيا وتايلاند.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي