الغش التجاري .. الوازع الديني أقوى من هيئات المستهلك وفرق المراقبة
هل نحن في حاجة إلى هذا الزخم الهائل من الإجراءات ومؤشرات السلع والهيئات والمقالات التي لا تُعد ولا تُحصى لنرقى بأنفسنا من حالات الغش التجاري والتلاعب برفع أسعار السلع الاستهلاكية المهمة لحياة الإنسان؟
رب العزة والجلال وضع لنا قوانين اقتصادية دقيقة بمحاذير مخافته ومراعاة ما أمرنا به من خلال آيات وتعليمات قرآنه الكريم. فقط علينا النظر والتمعن فيما قاله ـ سبحانه وتعالى، فيستهل ـ عز وجل ـ كلامه ووعيده في سورة المطففين بكلمة «ويل» وهي كلمة عذاب وتهديد، يتوعد الله - جل وعلا- بها من أساء من عباده، وهي كذلك في جميع القرآن.
لنر تفسير ابن كثير في شرح هذه الآية (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) قال: عذاب شديد للذين يبخسون المكيال والميزان، الذين إذا اشتروا من الناس مكيلا أو موزونا يوفون لأنفسهم، وإذا باعوا الناس مكيلا أو موزونا ينقصون في المكيال والميزان، فكيف بحال من يسرقهما ويختلسهما، ويبخس الناس أشياءهم؟ إنه أولى بالوعيد من مطففي المكيال والميزان. ألا يعتقد أولئك المطففون أن الله تعالى باعثهم ومحاسبهم على أعمالهم في يوم عظيم الهول؟ يوم يقوم الناس بين يدي الله، فيحاسبهم على القليل والكثير، وهم فيه خاضعون لله رب العالمين. والله إنه لكلامٌ تقشعّر له الأبدان (انتهى).
لنر تكملة الآية الكريمة (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). الآية الكريمة واضحة وجلية، وهي غنية عن الشرح. إذا كيف لنا أن نربط الكيل والاستيفاء والخسران في قوانين اقتصادية بما يجري في وقتنا الحالي من تجار السلع. تقريبا جميع السلع الموجودة في الأسواق يكتب عليها وزنها الإجمالي ووزنها الصافي، وهي في العادة مغلقة بإحكام. إذاً أين يكمن الاستيفاء والخسران؟
في رأيي الشخصي يكمن الاستيفاء والخسران في القيمة الشرائية للسلعة، فإذا رفع التاجر قيمة السلعة، فبالتالي تنقص القيمة الشرائية للعملة، مثل إذا كانت علبة الحليب التي وزنها كيلو جرام تباع بمبلغ عشرة ريالات، وزاد التاجر سعرها إلى 20 ريالا معنى ذلك أن التاجر أنقص كيل العلبة إلى النصف، وإذا رفعها إلى 30 ريال أصبح كيل العلبة 250 جراما. لا أدري هل يوافقني إخواني رجال الدين في هذا التحليل الاقتصادي البسيط للاستيفاء والخسران، ولكن هذا هو الواقع الحاصل في وقتنا الحالي من رفع أسعار السلع الاستهلاكية، وبهذه الطريقة يتفنن التجار في جني أرباحهم. وأنا لا أتحدث هنا عن الزيادة في الأسعار الناتجة من معدلات التضخم الاقتصادية المنطقية، بل زيادة الأسعار إلى مبالغ عالية فقط، لأن الإنسان يحتاج إليها ليعيش، وهي ليست من الكماليات.
وقد قرأت شرحا للشيخ الدكتور عبد العزيز بن محمد السعيد، عضو هيئة التدريس في كلية علوم الدين في الرياض في تفسير أن بخس الموازين والمكاييل له صور كثيرة فيقول: قد بين الله - جل وعلا - في هذه الآية من هم المطففون؛ فقال - جل وعلا: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) يعني: أنهم إذا أرادوا الشراء من الناس، وكالوا ووزنوا فإنهم يأخذون حقهم وافيا وزيادة عليه، أما إذا باعوا إلى الناس، فإنهم ينقصون المكيال والميزان على أي صورة وضعوا ذلك؛ لأن بخس المكاييل والموازين له صور كثيرة، فعلى أي وجه وقع منها كان العبد داخلا في هذا الوعيد الذي توعد الله - جل وعلا - به المطففين. (انتهى).
الآيات القرآنية الرادعة لبخس المكاييل والموازين كثيرة، حيث قال ـ جل وعلا ـ في سورة الأنعام: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ». وقال تعالى في سورة الإسراء: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا». وقال ـ عز وجل ـ في سورة الشعراء: «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ». صدق الله العظيم.
دعوني أعزائي القراء أشارككم في تجربة حصلت لي ربما تقّرب الصورة أكثر: ذهبت إلى البقّالة القريبة من المنزل لشراء زيتون معلب وهو يأتي في زجاجة وليس فيه بذور عبوة 400 جرام، الأخ البائع وأعتقد أنه من الجنسية الهندية طلب 17 ريالا للعبوة.
استغربت السعر ولم أشتر العبوة وذهبت إلى أحد المركز الاستهلاكية القريبة، وإذا بسعر نفس الماركة والعبوة سبعة ريالات فاشتريت عبوتين وبقي معي ثلاثة ريالات. معنى ذلك أن صاحب البقّالة كان سيبيعني ثلث العبوة بذلك السعر. هناك أمر آخر تجدر الإشارة إليه وهي ثلاجات المشروبات التي توجد في الشوارع والمباني الحكومية والمستشفيات، تم رفع قيمة المشروبات الغازية 50 في المائة فأصبح سعر العبوة ريالا ونصفا أي نصف العبوة، هذه الثلاجات لا تتعامل بالعملة المعدنية فتضطر إلى إدخال ريال آخر ورقي لتشتري المشروب أي أن الكيل في هذه الحالة أصبح صفرا. «أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ».
في تقديري البسيط أن وزارة الشؤون الإسلامية يمكن أن تلعب دورا فاعلا في نشر الوعي بهذه التجاوزات التي يمكن أن تكون قد غابت عن تفكير التجار والمستثمرين، إما لبعدهم عن القرآن الكريم، وإما لجهلهم بالمعنى الحقيقي لهذه الآيات التحذيرية. الوزارة لديها من علماء الدين الذين بإمكانهم شرح وتبسيط جميع الآيات الموجودة في القرآن الكريم وتوزيع الشرح على أئِمة المساجد لتكون من ضمن موضوعات خطب الجمعة. كذلك يمكنهم طبع كتيبات صغيرة تشرح هذه الآيات بعدة لغات كالعربية، والإنجليزية، والأوردية، والهندية، والبنغالية ، والسريلانكية والإندونسية، وذلك لوجود هذه الجنسيات بكثرة في البقّالات المنتشرة في جميع أنحاء البلاد.
السؤال هنا: هل وجود هيئة حماية المستهلك ومؤشر السلع الاستهلاكية أو حتى مراقبة وزارة التجارة للأسعار سيكون أكثر تأثيرا ورادعا من تلك الآيات الكريمة؟ سأترك للقراء الأعزاء الإجابة.