الرشاقة وعوالمها .. الرشاقة الروحية (2 من 2)

ربما يطول بنا الحديث عن الإنسان وعوالمه, لكن ما نريد الوصول إليه هو الرشاقة الروحية, نريد أن نعرف ما الحجب التي ربما يحملها الإنسان في داخل نفسه والتي ربما تقف في طريق هذا النور من أن يشرق ويمتد إلى أعماق وجود الإنسان؟ ليست هي بالحجب المادية, إنها حجب معنوية, وهي حجب تولد وتموت وتندثر في عوالم النفس, فالإنسان هو من يعيش التحدي مع نفسه, فإما أن يدخل نفسه ليبني الحجب بنفسه ويمنع عنه نور إنسانيته الذي ينبعث من روحه, وإما أن يقف منتصبا ليمنع قيام هذه الحجب أو يحد من تطاولها ليبقى وجوده مستنيرا ومشرقا بهذا النور.
لكن ما الحجب التي تقف في طريق الروح لبث نورها, إنها الحجب الأخلاقية, فالأخلاق هي القادرة على إزالة ما يعترض نور الروح من حجب نفسية. إننا مع الأسف لم نفهم هذا الدور للأخلاق في تأصيل إنسانيتنا, اهتممنا بالفقه وقلنا للناس إن المتدين هو فقط المتفقه في دينه وأنتج لنا هذا التفقه البعيد عن الأخلاق منظومة من الشرائع والأحكام فيها كثير مما يتصادم ومقاصد الإسلام في حفظ كرامة الإنسان والإعلاء من قيمته. واهتممنا بالعقائد من غير أن ننظر إليها على أنها الأسس لبناء الإنسان أخلاقيا وليس فكريا, وهذا الطريق أنتج لنا في كثير من الأحيان فكرا عقائديا نعبر به عن أنانيتنا ورغبتنا في تجريد الآخرين من حقوقهم ومن إنسانيتهم ومن حقهم في الاختلاف معنا في تفاصيل ما يؤمنون به. الأخلاق هي الرياضة التي تعطينا تلك الرشاقة الروحية وغيابها يعني السماح لظهور الأسوار والحجب النفسية التي ستمنع عنا بركة نور الروح, فالرشاقة الروحية جهاد النفس وهو الجهاد الأكبر كما وصفه نبينا نبي الرحمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأخلاق هي الميدان لممارسة هذا الجهاد. ولا يسع المجال للتوسع فيما للأخلاق من قدرة على جعل أرواحنا أكثر قدرة في إيصال نورها إلينا, لكننا سنكتفي بذكر وبشكل موجز ثلاثة من مرتكزات الأخلاق وهي:
1- سعة النفس: أول ما تستوجبه الأخلاق منا هو توسيع نفوسنا, فالحياة واسعة وهي تحوي تنوعا لا حد له, وبالتالي فكيف لنا أن نستوعب هذه الحياة ونفوسنا ضيقة ولا نجد فيها مساحة إلا لذواتنا, فلا عجب أننا نعيش كل هذه الخلافات والنزاعات والتخندقات والتمزق الاجتماعي, لأننا جميعا نتحرك في مساحات نفسية ضيقة جدا, ومن يعيش هذه المساحات الضيقة فالاحتكاك وارد لأقل الأمور أهمية, فيكفينا أن نختلف على أمور جزئية أو تاريخية لنكفر بعضنا ولنعلن الحرب على من يخالفنا. حتى كثير من علمائنا ممن صاروا يجارون العوام في نفوسهم الضيقة فيجعلون من اختلاف الرأي والاجتهاد مبررا لإسقاط الآخرين والتنكيل بهم والتعرض لسمعتهم والدعوة إلى هدر حقوقهم.
2- المحبة: لعل أكثر الأسوار علوا وأكثر الحجب سمكا في طريق الروح هي الكراهية, فالكراهية فعلا تنصب في طريق النور جدرانا سميكة وسوداء لا يستطيع هذا النور أن يخترقها ولا أن يفلت منها, ولهذا تكون النفوس شديدة الظلمة تهلك صاحبها وتنفر الآخرين منه. ولهذا فإن أقوى ما عند الإنسان لإزاحة الحجب النفسية هي المحبة, فهي ما صاحبت شيئا إلا وارتقت به وجعلته من الكمالات, فالمحبة مع الاختلاف تجعل من هذا الاختلاف تكاملا وإثراء وتعطل قوى التنافر بين المختلفين, والمحبة مع التنافس تجعل من هذا التنافس ألفة وتعاونا وتعطل ما فيه من رغبات أنانية لهزيمة الآخر وإلحاق الضرر به. وليس هناك ما يبرر الكراهية إلا إذا كنا نرى في الظلام فضيلة وأنه من الأمور المطلوبة.
3- فعل الخير: كيف لفعل الخير أن يجنب النفس من أن تحرم من النور المنبعث من الروح, إن ميزان الحق لفعل الخيرات هو منفعة الناس, فأكثر الأفعال صلاحا وخيرا أكثرها نفعا للآخرين. وهكذا أعمال تحدد قيمتها في ضوء ما فيها من خير ونفع للناس فهي الأقدر على تحطيم كل أسوار الأنا وحجب الأنانية التي تقف في طريق النفس الإنسانية لترتقي بنور ربها إلى الأعلى. أما إذا فقدت أفعال الإنسان ميزتها هذه فهي بنفسها ربما تتحول إلى أسوار وحجب تزيد من الإنسان ظلاما.
الإنسان رشيق الروح يصعد به نور هذه الروح إلى أعالي السماء فيزداد قربا من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبهذا يزداد نورا, كيف لا ونحن نرى نفس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشفافة تألقت بهذا النور فطار بها هذا النور حتى وصلت بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قاب قوسين أو أدنى. فإذا كنا فعلا في حاجة إلى الرشاقة في ميادين كثيرة فنحن أحوج إليها روحيا في وقتنا الحاضر, فهذه الحروب وهذه الكراهية الطاغية في المجتمعات, وهذا القتل والعنف الرخيص, وهذه المجاعة والفقر والتشريد كلها محن, لأن أرواحنا باتت مظلمة ومثقلة بأمراض كثيرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي