أزمات المرور .. منظور بالأبعاد الأربعة

لست أقصد بالمرور هنا رجال المرور فهم قطعاً محل التقدير ولا يسع أي منصف منا إلا أن يشكرهم نظير الجهد العظيم الذي يبذلونه وإن أخطأ البعض أو قصر، فحسبهم وقوفهم ساعات في خضم الزحمة بين الدخان ورائحة الإطارات وحرارة الشمس الحارقة ومباشرة الحوادث المؤلمة، إلا أن نقول لهم غفر الله لكم الذنوب وأجزل لكم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة، وإنما موضوعنا هنا يتناول أزمات المرور كظاهرة وطنية كارثية تتوزع المسؤولية عنها بين قطاعات الحكومة المختلفة من إدارة المرور إلى الأمانات ووزارة المواصلات إلى الجامعات ومراكز البحث العلمي، وأهمية هذا الطرح ووجوب تكثيفه من الجميع تنبع من عظم المأساة التي وصلنا إليها من حيث عدد الحوادث التي تجاوزت خلال السنوات الخمس الماضية ما يقارب المليون و600 ألف حادث، كما صرح بذلك مدير الإدارة العامة للمرور اللواء سليمان العجلان، ولك أن تتخيل الخسائر في الأرواح والممتلكات والآثار النفسية التي خلفتها ولا زالت تخلفها بقوة تلك الحوادث الأليمة، لقد أصبح الخروج من البيت إلى العمل هاجساً أمنياً لدى الكثير منا، بل أصبح البعض يودعون أسرهم بحرارة فهم لا يدرون هل يصلون سالمين أم يصلهم الدور في حوادث لا تهدأ يومياً في طرقاتنا، حتى وإن كنت القائد المثالي، فالخطر قد يأتيك من إحدى السيارات في الخلف، بل وأحياناً من فوق أحد الجسور أو الكباري!!، ولتبسيط الطرح وتشريح المشكلة من كل جوانبها، دعونا أحبتي القراء نتناولها من أبعادها الأربعة وهي مرتبة بحسب أهمية توافرها:
أولاً: لوائح وقوانين المرور: وهي في الأغلب تغطي معظم جوانب المرور من تحديد سن قائد المركبة إلى الشروط الصحية إلى أنواع المخالفات المرورية وعقوبة كل مخالفة، وبغض النظر عن جوانب القوة أو القصور فيها أو إمكانية تطويرها لتواكب الأزمة الكبيرة التي نحن بصدد مناقشتها والتي يمكن أن يناقشها أصحاب الاختصاص، فأعتقد أن تفعيل ما تحويه هذه اللوائح والأنظمة وتطبيقه بشكل حاسم على الجميع لا يقبل المحسوبيات أو الواسطة كفيل بالتقليل بشكل كبير من الحوادث ومسبباتها.
ثانياً: الطرق والبنى التحتية لأنظمة المرور: وهنا لا أحد يشكك في روعة الطرق في السعودية والتي تضاهي ما لدى جميع الدول المتقدمة شرقية كانت أم غربية، وذلك في مجموع أطوال الطرق ومواصفاتها العامة، إلا أن ما ينقصنا في ذلك يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط من وجهة نظري:
ـ تأسيس البنى التحتية للمرور في جميع تلك الطرق من إشارات توقف للمركبات وكذلك للمشاة، ولوحات توقف عند التقاطعات الداخلية وتحديد مسارات المشاة وغيرها من اللوحات الإرشادية والتنظيمية، وهذا الجانب يعتريه نقص كبير يحتاج إلى مشروع وطني سريع لإكماله، كما أنه من المفترض أن يكون أحد المتطلبات الأساسية عند بدء أي مشروع لطرق جديدة أو أعمال صيانة أو تجديد لأخرى قائمة، إذ كيف يتم فرض بعض القوانين واللوائح في الوقت الذي لا تتوافر لتطبيقها البنية التحتية السليمة والكاملة مثلاً: كيف أجبر المشاة على قطع الطريق من مسارات محددة وهذه المسارات لا توجد أصلاً!! أو أجبر المركبات على التوقف قبل التحول من طريق فرعي إلى رئيس بينما لا توجد لوحات توقف!!
ـ هندسة الطرق هي عمل بشري يعتريه النقص ولا يمكن أن يخلو من العيوب مهما كان مبدعاً وجميلاً، وهذه الأخطاء التي ربما تكون صغيرة ولا تتم ملاحظتها قد تسبب حوادث أليمة تتكرر في الأماكن نفسها لسنوات دون الانتباه لها، كأن تكون هناك مساحة من الارتفاع يليها انخفاض مفاجئ وانحناء في المسار أو نحو ذلك مما يولد قوى دفع فيزيائية تفقد بعض السائقين السيطرة على المركبة في ظروف وسرعات محددة، وهذا مشاهد وملموس ويحتاج إلى العمل التكاملي والتنسيق بين دوائر المرور والجهات المسؤولة عن هندسة الطرق، وربما الجامعات والجهات البحثية لتحديد تلك الأماكن ودراستها هندسياً بشكل دقيق بهدف إصلاحها أو تلافي عيوبها في الطرق الأخرى.
ـ بينما تتصف بعض الطرق داخل المدن بالسعة الكبيرة نرى أنه لا توجد فيها مسارات خاصة لسيارات الشرطة والإسعاف والدفاع المدني، في الوقت الذي نشاهد فيه نوعاً من الفوضى نتيجة تغيير عديد من السائقين مساراتهم، وهذا ما تلافاه كثير من الدول وفي مقدمتها بريطانيا التي خصصت في كثير من طرقها مسارات خاصة للباصات وسيارات الطوارئ في أوقات الذروة.
ـ لا تتوافر وسائل نقل بديلة مما يولد ضغطاً كبيراً على تلك الطرق يزيد بزيادة النمو السكاني ويتفاقم باضطرار الجميع للقيادة حتى العمالة رخيصة التكلفة التي أصبحت تتعلم مكرهة على القيادة في طرقاتنا!
ثالثاً: المركبة وقائدها: فأما المركبة فلم أسمع بحوادث لدينا تنسب لأخطاء في التصنيع عموماً وفي نظم التبريد أو التوقف أو الإطارات بشكل خاص رغم تكرار هذا النوع من العيوب التصنيعية بكثرة منذ سنوات ولعل آلاف السيارات التي سحبت من الأسواق العالمية في الشهور الأخيرة دليل على ذلك، وهذا يحتم تحليل أسباب الحوادث من ناحية المركبة وتصنيعها أيضاً، فليست كل الحوادث بسبب الإهمال أو السرعة، وربما ذلك مدعاة أحياناً لتلافي كثير من الحوادث في ظروف مشابهة، أما فيما يتعلق بقائد المركبة فهناك انحدار في معدل الوعي لدى كثير منهم خصوصاً صغار الشباب بقواعد المرور وأنظمة الطريق من جهة وهناك استهتار لدى البعض من جهة أخرى، وهذا يتطلب تشديد شروط الحصول على رخصة القيادة ووضع ضوابط وشروط لصلاحية استخدامها.
رابعاً: الرقابة والتنفيذ: وهنا لا بد من تكثيف استخدام تقنيات الرقابة الحديثة بما فيها كاميرات الرقابة التليفزيونية وأجهزة الرصد والتصوير للسرعة والمسح الآلي للوحات السيارات بالتكامل مع قواعد بيانات الأجهزة الأمنية بحثاً عن السيارات المطلوبة أو المسروقة أو المخالفة على الطرق بالشكل الذي يخفف العبء على رجال المرور ويغطي النقص في أعدادهم ويغني عن نقاط التوقف الكثيرة داخل المدن، وأنا هنا متفائل جداً بنظام ساهر الجديد في تحقيق ذلك، ومن جهة أخرى، لا بد من فرض وتفعيل جميع أنظمة المرور بما في ذلك ما أشارت إليه منظمة الصحة العالمية في تقريرها الأخير، حيث أعطت «السعودية 5 نقاط من 10 في فاعلية تطبيق حدود السرعة، و2 من 10 في فاعلية تطبيق قوانين لبس الخوذة الواقية لراكبي الدراجات الهوائية والبخارية، و5 من 10 في فاعلية تطبيق ربط السائق حزام الأمان، و2 من 10 في تطبيق قوانين ركوب الأطفال السيارة»، ولا أنسى تفعيل عقوبة رمي المخلفات من السيارة!
ختاماً، إن إدارة أزمة المرور مسؤولية الجميع لا بد فيها من تضافر كل الجهود كُلٌ في مجاله، بدءاً بقائد المركبة والمدرسة وأولياء الأمور ومروراً بالجامعات والجهات البحثية وانتهاء بإدارات المرور والجهات الحكومية الأخرى ذات العلاقة بالطرق وجودتها والمركبات وجودتها.
ودمتم بخير وسعادة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي